رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ماذا لو؟

لا يمكن تغيير التاريخ، فما حدث قد حدث وأصبح ملكا للماضي. لكن وقائع التاريخ الكبرى تترك آثارا تمتد لسنوات تالية، تأتى بعدها أجيال جديدة تسأل ماذا لو أن هذه الوقائع لم تحدث بالشكل الذى حدثت عليه، وهل كنا لنصبح أفضل حالا مما نحن عليه الآن. ماذا لو أن ميخائيل جورباتشوف أصلح الاتحاد السوفيتى دون ان يتسبب فى انهياره، مثلما أصلح الزعيم دينج هسياو بنج الصين؟ ماذا لو قبل العرب تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، فقامت للفلسطينيين دولتهم المستقلة على نصف فلسطين؟ ماذا لو أن أحمد عرابى توقف عن تصعيد المطالب الثورية قبل نقطة استجلاب الاحتلال الإنجليزى لمصر؟ ماذا لو كسب العرب حرب يونيو، أو أن هذه الحرب لم تقم من الأساس؟ ماذا لو أن صدام حسين لم يقم بغزو الكويت عام 1990؟

الاحتجاجات التى شهدتها مصر فى 18-19 يناير 1977 هى من الأحداث التى شكلت تاريخ مصر فى السنوات التالية،فماذا لو أن هذه الاحتجاجات لم تقع؟وقتها كانت الحكومة تحتكر تجارة وتوزيع كل شيء تقريبا، وتدفع الكثير من الدعم لإبقاء الأسعار عند مستوى منخفض. لكن الميزانية المنهكة بعد سنوات الحرب لم تعد قادرة على مواصلة تحمل هذه الأعباء، فقررت الحكومة رفع أسعار عدد من السلع الأساسية، فخرجت الاحتجاجات العنيفة إلى الشارع. تراجعت الحكومة عن رفع الأسعار، وتراجعت أيضا عن جملة من المسارات الإصلاحية التى كان يمكن لها أن تغير مجرى الحياة فى مصر لو تمسكنا بها وواصلنا تعميقها.

كانت مصر تمر بتحولات كبرى عقب الانتصار فى حرب أكتوبر، وكانت هناك فرصة نادرة لعبور اقتصادى وسياسى ينقل الأوضاع نقلة كبيرة إلى الأمام، لكن الاحتجاجات فى الشارع أجهضت الفرصة فى السياسة كما أجهضتها فى الاقتصاد.سياسيا كان الرئيس السادات يقود عملية إصلاح سياسى كبرى، فأعاد التعددية الحزبية، وألغى الرقابة على الصحف والنشر، ووسع هامش حريات التعبير والتجمع والتنظيم بدرجة كبيرة. نظم تليفزيون الدولة مناظرات راقية فائقة العمق والجودة والتهذيب بين قادة الأحزاب الناشئة. أديرت الانتخابات البرلمانية فى نوفمبر 1976 بنزاهة كاملة، واعتبرها المراقبون أفضل انتخابات شهدتها مصر منذ 1952. فاز الحزب الحاكم بأغلبية مريحة تمكنه من الحكم بأريحية، وفازت المعارضة بتمثيل كاف يمكنها من مراقبة الحكومة بفاعلية. خرجت المظاهرات وتوصل الرئيس السادات إلى استنتاج مؤداه أنه لولا مناخ الانفتاح السياسى لما تم تحريض كل هذه الأعداد من الناس للخروج، فقرر التضييق على الأحزاب وإعادة إغلاق المجال العام.

اقتصاديا، كانت ميزانية الدولة تعانى ضغوطا كبيرة بعد كل ما تحملته خلال سنوات الاستعداد للحرب، من تكلفة إعادة بناء وتطوير القوات المسلحة. على الجانب الآخر سمح انتهاء الحرب بتدفق موارد جديدة، فأعيد فتح قناة السويس، وعادت حقول بترول سيناء، وعاد السياح لزيارة مصر، أما الأهم من كل ذلك فكانت تلك التحويلات المالية الضخمة التى أرسلها ملايين المصريين الذين ذهبوا للعمل فى الخليج.

أتاحت السنوات التالية لحرب أكتوبر فرصة نادرة كان من الممكن لمصر لو استغلتها أن تصبح من بين النمور الاقتصادية الصاعدة. فقد نما الناتج المحلى الإجمالى فى الفترة 1974 – 1981 بمعدل 9% سنويا، وزاد معدل الادخار من 8.3% إلى 17.8%من الناتج، وزادت تحويلات العاملين فى الخارج من 189 إلى 2855 مليون دولار، وهى طفرة لم تشهد مصر مثلها فى اى مرحلة من تاريخها.

كان التحدى هو توظيف الموارد الجديدة بطريقة تخفف أعباء الدولة، وتوجه مواردها للإنفاق على الخدمات الأساسية، خاصة التعليم والصحة، وتعيد وضع الاقتصاد على طريق النمو. لم يكن لهذا أن يتحقق دون إصلاح هيكلى، يرشد نفقات الدولة، ويصلح سعر صرف الجنيه، ويستخدم التكاليف الحقيقية لتوجيه قرارات الإنفاق والاستثمار فى اتجاه التنمية.

فشلت محاولتنا الأولى للإصلاح الهيكلى، وفشلنا فى تحقيق هذه الأهداف، وكان علينا تأجيل الإصلاح لعقود أخرى. لقد تم إهدار الفرصة، وتجنبت الحكومات المتعاقبة الاقتراب من ملف الإصلاح، فضاعت فرصة إصلاح هيكلى ينشط الصناعة والإنتاج السلعى، وتحول اقتصادنا إلى اقتصاد ريعى يعتمد على النفط والعقارات والتحويلات. فبعد أن كان النفط فى عام 1974 يمثل 3% من الناتج، 11% من الصادرات، 1% من عائدات الحكومة، أصبح فى عام 1981 يمثل 13%، 59%، 20% على التوالى. حدث هذا بينما انخفضت قيمة صادراتنا من القطن بقيمة 50%، ومن المنسوجات بنسبة 41%، ومن المنتجات الصناعية إجمالا بنسبة 46%. واليوم، وبعد أكثر من أربعين عاما، فإنه مازال علينا الخروج من مأزق العقارات والتحويلات والاستيراد إلى رحابة الصناعة والابتكار والتصدير.

لا يمكننا إعادة كتابة التاريخ، لكن بإمكاننا تعلم الكثير من دروسه.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: