الأسبوع الماضى كان أسبوع الصناعة المصرية بامتياز. فى المؤتمر الاقتصادى احتلت الصناعة موقع القلب من أحداث المؤتمر. بعدها بأيام كانت احتفالية اتحاد الصناعات بمائة عام على تأسيس الاتحاد، فكانت الصناعة هى الموضوع والبطل. الاهتمام بالصناعة أشاع موجة اطمئنان فى النفوس. رعاية الرئيس السيسى للحدثين ورسائله خلالهما تشير إلى أن الدولة فى مصر تدخل مرحلة جديدة تمنح فيها الأولوية للصناعة.
الصناعة والتنمية والوطنية، ثلاثى مترابط فى التاريخ المصرى الحديث. أدرك رواد الحركة الوطنية المصرية أن فقر الأمم واستقلالها لا يجتمعان، وأن الصناعة هى النشاط الأقدر على تنمية ثروة الأمة بسرعة. عندما شرع محمد على باشا فى قيادة مصر نحو النهضة، فإنه أسس الجيش والصناعة الحديثة، فكانت الموجة الأولى لتصنيع مصر. موجة التصنيع الثانية جاءت فى خضم الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، والتى وصلت إلى ذروتها فى ثورة 1919، فبينما كان النضال الوطنى متواصلا، أسس الوطنيون من المستثمرين بنك مصر فى 1920، واتحاد الصناعات المصرية فى عام 1922، حتى قبل أن تحصل البلاد على الاستقلال الكامل أو على دستور يضع أسس الدولة والحكم فى المرحلة التالية.
كانت هذه بداية الموجة الثانية لتصنيع مصر التى كان طلعت حرب مؤسس بنك مصر هو عقلها المدبر. ترجع أصول طلعت حرب إلى أسرة ريفية فقيرة، هاجر عائلها إلى القاهرة، ليعمل موظفا فى السكك الحديدية. نشأ طلعت حرب فى حى بين القصرين فى قلب القاهرة الإسلامية، فجمع بين الأصل الريفى والنشأة القاهرية، المصدران الأهم للثقافة والشخصية الوطنية المصرية. تخرج طلعت حرب فى مدرسة الحقوق، وكان وطنيا مصريا، دعم مصطفى كامل وحركته الوطنية، قبل أن ينضم إلى حزب الأمة بقيادة أحمد لطفى السيد.
تنقل طلعت حرب بين وظائف عدة تتعلق بالإدارة المالية، وتعامل مع كثير من المستثمرين الأوروبيين والمتمصرين، ومنهم تعلم فنون إدارة المال وتنمية الثروة بالطرق الحديثة، فى وقت لم تكن فيه هذه المعارف شائعة فى الأوساط الوطنية. تأثر أقران طلعت حرب بالمكون الليبرالى الديمقراطى للحضارة الغربية، بينما تأثر هو بمكونها الاقتصادي. عبر حرب عن رؤيته فى خطاب ألقاه عام 1913 ترحيبا بأحد الماليين الأوروبيين المهمين، فقال نحن نريد أن نتبوأ مكانا تحت الشمس وأن نعيش مع الآخرين وكما يعيش الآخرون. نريد أن نكون منتجين وأن نحسن الإنتاج، ونريد أن نورد ما ننتج وأن نحسن التوريد، ونريد أن نستهلك وأن نحسن الاستهلاك. نريد أن نكون عمالا محمودين وأصدقاء محبوبين، ونؤمل أننا باحتذاء مثلكم نستطيع أن نصل إلى هذه الأغراض.
تقدم طلعت حرب لأول مرة بمشروع إنشاء بنك مصر أثناء جلسات المؤتمر الجامع المنعقد فى عام 1911. كانت العلاقات بين المسلمين والأقباط قد توترت عقب اغتيال رئيس الوزارء بطرس غالى عام 1910 على يد شاب مسلم من أعضاء الحزب الوطنى. عقد عقلاء الأمة مؤتمرا أطلقوا عليه «المؤتمر المصرى»، لتأكيد الهوية والمصلحة الوطنية. لم يكتف المؤتمر بمناقشة العلاقات الطائفية، وإنما عرض مشروعا متعدد الجوانب لنهضة الأمة، وفى هذا السياق أطلق طلعت حرب الدعوة لتأسيس أول بنك مصرى.
أطلق طلعت حرب على البنك الذى أنشأه والشركات التى تفرعت عنه اسم مصر، تعبيرا عن وطنيته. أسس البنك مطبعة مصر عام 1922، والشركة المصرية لإنتاج الورق 1923، والمصرية للتجارة وحلج القطن 1924، ومصر للنقل والملاحة ومصر للمسرح والسينما 1925، ومصر للغزل والنسيج ومصر للكتان ومصر للمصايد ومصر لنسج الحرير 1927، ومصر لتصدير القطن 1930، ومصر للطيران 1932، وست شركات دفعة واحدة فى عام 1938، هى شركات مصر للغزل الرفيع والمنسوجات، وصباغى البيضا بكفر الدوار، ومصر للتنمية العقارية، ومصر للمناجم والمحاجر، ومصر لتكرير الزيت، ومصر للتبغ والسجائر، ثم شركة مصر للمستحضرات الدوائية عام 1940.
لا نهضة صناعية فى بلد نام دون دعم حكومى. لم يكن لبنك مصر تحقيق كل هذا النجاح لولا الدعم الحكومى القوى. كان مسهمو البنك موجودين فى مواقع مفصلية فى مجالس الشيوخ والنواب، وكان طلعت حرب رئيسا للجنة المالية والصناعة والتجارة والجمارك بمجلس الشيوخ. فى عام 1925 قررت مجالس المدن والقرى والمديريات تحويل حساباتها من البنك الأهلى إلى بنك مصر، بما مجموعه أكثر من مليون جنيه. قامت مصلحة البريد فى عام 1927 بتحويل حساب التوفير الخاص بها لبنك مصر. قامت الحكومة بزيادة الجمارك على الواردات من المنسوجات لحماية الصناعة الوليدة. أصدر مجلس النواب قانونا يمنح شركة الغزل والنسيج دعما قدره عشرون قرشا عن كل قنطار من القطن تقوم بتصنيعه.
لكن كان هناك سوء إدارة، حتى إنه من بين كل شركات بنك مصر، فإن شركات الغزل والنسيج والحلج هى فقط التى كانت تحقق أرباحا. تخلت إدارة البنك عن القواعد المهنية عند إقراض شركاتها الخاسرة والعملاء ذوى الحظوة، فاختل الوضع المالى للبنك. وصلت التجربة إلى نهايتها عندما أجبر طلعت حرب على الاستقالة من رئاسة البنك فى 1939 مقابل الاستجابة لطلب القرض اللازم لإنقاذ البنك الموشك على الإفلاس، وتقرر تسييل الشركات غير الرابحة، والتوقف عن إنشاء شركات جديدة.
وصلت موجة التصنيع الثانية إلى نهايتها الحزينة، وانتظرنا حتى جاءت الموجة الثالثة بعد ثورة يوليو، والتى انتهت بالفشل أيضا. قطعت كل موجة تصنيع جديدة خطوات مهمة، لكن أيا منها لم يواصل المشوار للنهاية. أدعو لدراسة خبراتنا مع موجات التصنيع الثلاث السابقة ونحن نبدأ الموجة الرابعة لتعظيم الفائدة.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: