رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

فاسيلى كاندنسكى.. رائد التجريد وموسيقار الألوان

صعب ووعر وقاس الدخول إلى عرين الفنان، إلا أن حلاوة البحث فى أن يقودك إلى ثمرات ومذهلات وتوضيحات ونقاط توضع على الحروف.. ساعتها تغدو المهمة الشاقة بمثابة نزهة فى الهواء الطلق، وزيارة مثمرة لقلعة حصينة فتحت لك أبوابها بترحاب لاستقبال حب استطلاعك بإجابات ناصعة الصراحة مع كامل التوثيق خاصة إذا ما تم اكتشاف أن فنانًا تشكيليًا عملاقا فى حجم فاسيلى كاندنسكى (1866 ــ 1944) لم يكن صريحًا فى سرد تاريخ حياته ودوره الريادى فى تطوير الفن التجريدي، فقد ادعى أنه رسم أول لوحة مائية تجريدية عام 1911 مزورًا تاريخها ليسقط حق الفنان الفرنسى روبرت ديلونى فى الريادة من قبله، وإن كان العديد من الفنانين قد مارسوا التجريد ــ قبل تفجر ثورته ــ دون إدراك منهم بذلك، فعندما رسم الفنان «مونيه» لوحة «زهور اللوتس» أعطى مساحة ومكانة واسعة للون على حساب مساحة الموضوع.. والفنان «هنرى ماتيس» أيضًا فيما بين 1912 و1916 استغرق فى لوحاته برسم مساحات كبيرة لونية تجريدية خارج الموضوع.. ولكن وعلى حد تأكيدات فاسيلى ما بين سنة 1911 و1914 يكون أول من عبر بجدية الحدود الفاصلة التى ستقسِّم تاريخ الفن إلى ما قبل التجريد وبعده، وذلك عندما قام بتنفيذ العمل الفنى الأول المجرَّد من الموضوع، وقد روى بنفسه تلك الوقفة التاريخية التى اتخذ الفن من بعدها مسارًا جديدًا تمامًا ويعود تاريخها إلى فترة تجاوزه الأربعين من عمره وهو عاجز عن الوصول إلى بداية مساره الفنى الحقيقي.

 

«كنت حينها أتخبط بين التيارات والمذاهب حتى ولو كنت مفتتنًا بالألوان والخطوط الواضحة. كنت أريد أن أجدِّد ولكنى عاجز عن معرفة كيف؟! وفى أى اتجاه؟!.. كنت أحبّذ التعبيرية لكنها لا تكفينى، وأتشوق للسير فى ركاب المستقبلية لكنها لا تشبع رغباتى، وكذلك حال التكعيبية التى كانت قد بدأت تطل برأسها، وفى أحد الأيام التى كنت فيها قد وصلت فى حيرتى وتساؤلاتى إلى حد يكاد يدفعنى إلى الابتعاد عن الرسم، ولو لفترة، وعند الظهر دخلت الاستوديو الخاص محبطًا حزينًا ساهمًا رافضًا الفرشاة والألوان، واستلقيت على الأرض مسندًا رأسى للجدار، وفجأة لاحت فى مواجهتى لوحة مركونة على الجدار المقابل خيّل إلىَّ أنها غريبة وأن أحد ما قد وضعها هناك.. استقمت فى جلستى وشرعت فى تأملها مبهورًا لأجدنى من خلالها كمن عثر على العديد من الأسئلة اللامجدية التى كنت أطرحها على نفسى، وقلت لعل إلهامى وحده هو من وضعها لتحدث الشرارة.. وبعد دقائق تحققت من الجديد المذهل، فلم تكن سوى لوحة من رسمى جعلت فيها على سبيل البدء فى إنجاز عمل جديد مجموعة من الخطوط واللطخات اللونية المائية التى يبدو أنها قد سالت على بعضها البعض وتمازجت فى بعضها بحيث أصبحت النتيجة عملا رائعا متكاملا، أو بدت كذلك لأنى كنت بلا وعى قد أسندتها قبل خروجى الملول من المرسم مقلوبة على جانبها.. وهكذا ولد لدىَّ الفن التجريدى عبر تلك اللوحة التى عرضتها للمرة الأولى فى 1910 ـ الحقيقة للأمانة والتاريخ 1914 ــ بعنوان لوحة مائية تجريدية لتغدو منطلقًا لىّ على درب النوع الفنى الذى لم يفارقنى بعدها».

ولد كاندنسكى فى الرابع من ديسمبر 1866 فى موسكو منحدرًا من أسرة قضت عشرات السنين فى منفاها بسيبيريا، ولم تعد إلى مسقط رأسها إلا بعد المرسوم الملكى الذى أصدره القيصر الروسى ألكسندر الثانى عام 1861 القاضى بعودة الكثير من العائلات المنفية فى القطب الشمالى، وكان من بينها أسرة والده التى لجأت إلى بلدة «كياخطة» على الحدود المنغولية، حيث عمل والده فى صناعة الشاى التى نقلها معه من بعد استقراره فى موسكو ليتزوج من فائقة الجمال «ليديا طاتشيبة» لتُنجب له طفلها الوحيد «فاسيلى» وبعدها لم يكتب للارتباط البقاء لتُحال تربية الطفل إلى خالته التى ألهبت خياله بحكايات وأساطير الروس والألمان، إذ كانت تقرأها له باللغتين منذ بدايات وعيه الأولى للغات واللهجات.. وعندما يضطر الوالد إلى نقل عمله من موسكو إلى أوديسا عام 1871 مديرًا لأحد مصانع الشاى فيها مصطحبًا فاسيلى معه يبتعد الصغير عن مدينته المحبوبة لتبقى دومًا فى ذهنه محاطة بإطار البيت والأمان والخيال.. ويشب كاندنسكى ليعمل فى إحدى شركات الإحصاء ليغدو بعد تفوقه أحد أعضاء مجلس الإدارة مما يتيح له متابعة دراسته الأكاديمية، وفى عام 1892 يجتاز الامتحانات النهائية فى كلية الحقوق دون عناء لينتظره مستقبل المحاماة على خطى من حرير.. وفى تلك الأثناء يلتقى بزميلته وابنة عمه «آنا شيمياكينا» التى تكبره بسنوات وتخرجت بتفوق فى جامعة موسكو وأصبحت مُحاضرة فيها، لتنسج قصة الحب التى تنتهى بالزواج.

مع نهاية القرن التاسع عشر يقف كاندنسكى أمام خيارين.. إما أن يكون رسامًا، وإما أن يغدو البروفيسور الجامعى أو المحامى الضليع، وهنا يلعب القدر لعبته الكبرى معه عندما يذهب إلى معرض الانطباعيين الباريسيين الذى أُقيم فى موسكو فتأسره لوحة «كومة القش» للفنان الفرنسى «كلود مانيه» فيظل أمامها متخشبًا مبهورًا، ويخرج فاسيلى من دائرة تأثير مونيه للحظات ليذهب منتشيًا لسماع موسيقى «فاجنر» فى مقطوعاته «الهولندى الطائر» وأوبرات «ديتزى وتانهوزر ولوهانجرن» فيغدو كل من مونيه وفاجنر هما السبب المباشر فى قرار حياته لينحاز كليةً إلى دراسة الفن التشكيلى دون تردد أو إبطاء، وكان ذلك وهو فى الثلاثين من عمره ليعلق على تلك الخطوة بقوله: «إن موسيقى فاجنر اجتاحتنى بعفوية عميقة استطعت من خلالها أن أرى كل الألوان المحببة إلى قلبى بعيون روحى الهائمة فى أرجاء المكان، وأن أرى خطوطها المتوحشة التى أوصلتنى إلى حافة الالتهاب من خلال حركتها وقدرها لتدفعنى لرسم العديد من اللوحات استمدت أشكالها من سماع أذنيى».. وكان كاندنسكى خلال سنواته الأولى قد تعلَّم فن العزف على البيانو والتشيللو حتى أنه درس الرسم كمتدرب، وقد لعبت تلك التجارب المبكرة مع الموسيقى دورًا محوريًا فى حياته وعقيدته ليصبح استخدامه للألوان فى علاقتها بالموسيقى، بينما استخدم الآخرون الألوان لتقديم وصف للطبيعة والموضوع فقط، ويعد كتاب «فن الانسجام الروحى» للفنان من أهم مراجع الفن التجريدى، حيث يتحدث فى بعض صفحاته عن علاقة الموسيقى بالفنان التشكيلى، ومن أنه ــ كاندنسكى ــ يستطيع سماع الألوان كما كان يقول الشاعر الألمانى «جوتة» إن الهندسة موسيقى مجمدة.

غادر فاسيلى موسكو متجهًا نحو ميونخ عام 1896 مصطحبًا معه الزوجة وابنة العم «آنا» التى لم تكن متحمسة لخطوته الانفعالية التى تحوِّله من سلك القانون لعالم بلا خيوط ولا قوانين.. سافرت على مضض لتحيا معه فى خضم المحيط البوهيمى.. وكانت ميونخ التى قصداها لدراسة الفنون التشكيلية قد عرفت وقتها باتجاهاتها كمدينة للفنون السياسية، وفيها حدَّد فاسيلى مفهومه للفن الحديث بقوله: «إن أعظم تزوير للحقيقة هو الاعتقاد بأن الفنون التشكيلية تقليد دقيق لما تحتويه الطبيعة»، وكان الاتجاه العام فى الفن التشكيلى على مدى العصور القديمة وحتى القرن التاسع عشر هو محاكاة الطبيعة وذلك ابتداء من «البستانية الحسناء» للفنان «رافائيل» إلى لوحة «الاستحمام» للفنان «ايجنر»، حيث حرص الفن التشكيلى على تصوير الشخصيات والمشاهد الطبيعية والديكور والطبيعة الصامتة فى تقليد دقيق لا يترك شكًا فى تماثله، ويأتى القرن العشرين ليغدو الموضوع خارج نطاق الاهتمام وليس له مكانته السابقة، ولا مجال لسرد الحكايات برغم أن فنانين كثيرين استمروا إلى حد كبير فى الاهتمام بالشكل والرجوع إلى الواقع كركيزة لابتكارهم الفنى..


 

وفى ميونخ اعتمد كاندنسكى على تبسيط الأشياء، فرسَمَ بواسطة «طباعة الخشب» الكثير من الأعمال الجرافيك والتصميمات الخطوطية، على الرغم من أنه كان محاطًا بفنون امتازت بالمحافظة والنظرة البرجوازية وضيق الأفق على حد قوله المتحيّز للتجريد، كما رأى أن هناك خضوعًا أكاديميًا مسيطرًا على الفنانين وطلبة كليات الفنون.. وكان من ضمن ماأنجزه فى تلك الأيام لوحة «المغنية ذات اللونين» وذلك فى عام 1903 التى تميزت بالخطوط الطولية العمودية التى تشابهت مع النوتة الموسيقية وذلك مرده لإيمانه العميق بتواصل الموسيقى مع الرسم.. ومع حلول عام 1911 أسس «كاندنسكى» مع صديقه «فرانزمارك» حركة تشكيلية جديدة عرفت بجماعة «الفارس الأزرق» وذلك لأن كـليهما يحب استخدام ذلك اللون فى أعماله، إضافة إلى شغف «مارك» برسم الخيول بينما «فاسيلى» شغوف برسم الفرسان، وكانت خلاصة تجارب الاثنين هى البُعد بفلسفة الجمال عن القواعد الكلاسيكية والأكاديمية، والتركيز على الرغبات الباطنة للفنان التى يستشعرها لتنفيذها بالطريقة التى ترضيه سواء كانت تعبيرية أو تكعيبية أو محاولات تجريدية.. وفى تلك الفترة أقيم معرضان فى ميونخ شارك فيهما فنانون من روسيا وألمانيا وفرنسا والنمسا أمثال «كاندنسكى» و«براك» و«بيكاسو» لينضم بعدها إلى مدرسة «الباوهاوس Bauhous» من بعد توقف جماعة «الفارس الأزرق» إثر إعلان الحرب العالمية الأولى فى 1914 والتى أعادت كاندنسكى إلى موسكو ليغدو عام 1918 عضوًا فى قسم الفنون الجميلة بلجنة التربية الجماهيرية، ويصل فى عام 1920 إلى درجة أستاذ بجامعة موسكو، وفى 1921 يؤسس أكاديمية العلوم الفنية، وكاد أن يصبح واحدا من كبار الفنانين الثوريين فى روسيا، لولا أنه سرعان ما وجد ذات صباح أن نظرته إلى الفن ودوره فيه يتناقض تماما مع انبلاج الثورة البلشفية التى دفعته فورتها إلى مساندتها فى أعوامها الأولى، إلا أنه لم يجد فى الواقع مكانا جديًا فيها، وفى هذاالشأن كان كاندنسكى واحدا من أولئك الفنانين الذين وقفوا إلى جوار الثورة فكانت ــ حين تحولت إلى دولة ــ خيبة حياتهم الكبرى.. تلك الخيبة التى دفعت أشخاص مثل «مايا كوفسكى» إلى الانتحار، وجعلت الكثيرين من الأدباء يهاجرون إلى المنفى لتحقيق الذات، ومن بينهم كاندنسكى الذى اختار طريق المنفى بعد تحرره من كل ارتباط أيديولوچى ربطه بالثورة، وكان قد أقام قبل مغادرته موطنه اثنين وعشرين متحفًا فى مدن عديدة فى الاتحاد السوفيتى ليظل محاولا القيام بالمهام الموكولة إليه، إلا أن حماسته راحت تفتر شهرًا من بعد شهر بعد اكتشافه أن المطلوب منه أن يكون شاهد زور على ممارسات سلطوية تبتعد بالتدريج عن طموحات الثورة وأحلامها.. فى نهاية الأمر يقرر الفنان الخلاّق أن يترك كل شىء ويعود إلى فنه.. إلى ألمانيا.


وإذا ما كان فاسيلى قد اختار ألمانيا بالذات بلدًا للمنفى فذلك لأنها فى ذلك التاريخ ديسمبر 1921 لم تكن قد واجهت بعد الهجمة النازية، وكانت الأفكار الثورية لم تزل تختمر، ولم تكن ألمانيا ذاتها جديدة عليه فقد قصدها مسبقا لدراسة الفن فى ميونخ بين عامى 1897 و1899 ولم يكن هتلر قد وصل إلى السلطة بعد.. لكن كاندنسكى من بعد اختلافه الجذرى الفكرى والفنى مع المفاهيم الجديدة لمدرسة الباوهاوس التى غدت متصلبة ناصبة العداء لكل تجديد ــ وكان زملاؤه فيها مجموعة من الفنانين المعروفين من بينهم الفنان العالمى بول كلى، وقام النازيون بإغلاقها بمجرد رحيل كاندنسكى ــ قرر الرحيل إلى فرنسا فى عام 1925 ليغدو مواطنا فرنسيا بحكم القانون عام 1939.. ويظل مرسمه الخاص فى «نوى سوسن» بالقرب من باريس مقصدا للفنانين وعلى رأسهم «خوان ميرو»..

ويرحل كاندنسكى فى 13 ديسمبر 1944 فى سن الثامنة والسبعين بعدما غمره المجد من كل جانب ليحمل فى نظر الفن لقب «أمير الروح» و«الفارس».

رحل الفنان فاسيلى كاندنسكى ليتركنى فى موقع الحيرة البالغة حول الجانب الآخر من حياته الشخصية.. الجوانية.. الزوجية.. النسائية.. العاطفية.. الشاعرية.. بعدما تضاربت التواريخ والحكايات والمصادر والروايات والأسماء تحت ناظرى، حيث لا أجد فى الواجهة سوى «آنا» ابنة العم الزوجة التى سافرت معه إلى ألمانيا عام 1896 عندما قرر هجرة القانون لوجه الفن وحده، ومن بعدها يختفى ذكرها وأى أثر لها على لسانه رغم كثرة مؤلفاته. وأتساءل فيما إذا كانت «آنا» تلك كإنسان فى نظره ونظريته الفنية تمثل الغياب حيث يتحول الإنسان فى ريشته إلى خطوط مسطحة وحروف متلاصقة ومنقوشات شكلية مجردة عن وظائفها.. فى مسعاى لكشف المستور واجهت التشفيرات والتشويهات وتحملت صلف الاختراقات فى دهاليز صاحب الاتجاهات اللاموضوعية التى نهجتها التجريدية لأجد فى حياته الصاخبة ثلاث نساء: الأولى «آنا شيميا» الزوجة التى هاجرت معه إلى ألمانيا رغم عِلمها بأن زوجهاعلى علاقة بتلميذته «جابرييلا مونتر» وأنهما كانا يعيشان معًا فى الخفاء ومكثت الزوجة تتظاهر بعدم معرفتها بما يدور فى الخفاء حتى عودتها مع الزوج إلى موسكو لتمكث ــ انتقامًا لكرامتها سبعة أعوام ــ لا توافق على الطلاق الرسمى، الذى حدث أخيرًا فى عام 1903، هذا بينما جابرييلا التى ضربت بعرض الحائط جميع تقاليد المجتمع لتعيش مع الفنان المتزوّج علانية قصة حب شديد الوطأة، حيث كان الفنانون المحيطون يلومون «فاسيلى» على سوء اختياره لحبيبة تخاصم الجمال بعدم تناسق ملامحها، وكانت كفنانة قد رفضت اتباع أسلوبه للتمسك برؤيتها الخاصة، وقد رافقته فى الكثير من أسفاره للعديد من المدن كان أكثرها انعكاسا على فنه رحلتهما معًا لشمال أفريقيا خاصة إلى تونس عام 1904.


و..من بعد حصول فاسيلى على الطلاق من «آنا» لم يعد لجابرييلا ثانية، فقد وقع فى غرام ابنة السابعة عشرة «نينا كاندوينسكايا» ابنة الكولونيل ليعقد قرانه عليها فى نفس عام لقائهما الأول 1916 وترتدى العروس فستان الزفاف من تصميم العريس، وعندما تكاثرت الأقوال بأن صغيرة السن تزوجت من ابن الخمسين لشهرته جاء نفى نينا قاطعًا بأنه زواج الحب من أول نظرة، وإن كان حقيقته زواج النغمة الأولى حيث تعرَّف عليها من خلال سماعة التليفون، واعترف لها فيما بعد بأنه وقع فى غرام صوتها أولا، ليقوم فى نفس اليوم برسم لوحة من وحى تلك المحادثة أسماها «إلى الصوت المجهول» ولم تدم سعادته كأب طويلا فقد توفى الابن الذى أنجبته له «نينا» وهو لم يزل فى الثالثة.. و..كانت جابرييلا البعيدة عن دوائر الحب وسهامه تجهل تمامًا حكاية زواج «فاسيلى» و«نينا» عندما تسلمت خطابا على يد محامى يطلب فيه الحبيب الشارد منها ــ وهو الذى لم يرد على أى من خطاباتها منذ 1915 ــ إعادة جميع صوره وملابسه ومقتنياته الشخصية، فكتبت له خطابا من عشرين صفحة تعبّر له فيه عن شديد عجبها من تصرفات شخص كانت تعتبره قدوة ومعلمًا وصديقا وحبيبا.. ولقول الحق تاريخيا فإن «نينا» مكثت إلى جوار «فاسيلى» زوجة لا غبار عليها على مدى الثمانية والعشرين عاما، وقد نشرت مذكراتها الشخصية فى عام 1973 بعنوان «كاندنسكى ونينا» تقدِّم فيه نصائح ذهبية لمن تريد الاحتراق فى بوتقة أى فنان.

و..من بعد وفاة كاندنسكى كان هناك زحام على لوحاته باعتبارها أوج الفن الطليعى الروسى، وفى المقابل كان الطلب على لوحاته شديدًا، فقامت «نينا» بتلبية كافة الطلبات لتغدو من أثرياء باريس المشار إليهم، حيث أصبحت فى لمحة عين تقتنى قصرا فى عاصمة النور وفيلا فى سويسرا وسربًا من السيارات الفارهة، وكانت قد اشترت فى السبعينيات شاليهًا فى منطقة جبال الألب السويسرية وانتقلت لتعيش هناك، وفى عام 1983 عثر عليها مقتولة فى حمام الشاليه بعدما قام اللصوص بسرقة جميع مجوهراتها المقدرة بأكثر من سبعة ملايين دولار غير قلادة كارتييه الماسية الباهظة، والغريب أن القتلة لم يمسوا واحدة من لوحات الزوج، وأبدًا لم يتم العثور على أى من الجناة، وفى جنازتها لم يتجاوز عدد المشاركين بضعة أفراد، بينما بعد خمس سنوات من مقتلها عندما توفيت جابرييلا شيعها آلاف المعجبين بفن كاندنسكى، فهى التى خاطرت بحياتها عندما احتفظت فى بيتها بلوحاته، على الرغم من أن السلطات النازية أمرت بمصادرتها لاتهامها بأنها أعمال منحلّة ويعاقب كل من يجرؤ على حيازتها، لكن جابرييلا المحبة الباسلة احتفظت بكنوزها للتاريخ مُضحية بحياتها ولم تهرب من تحت سقف بيتها حتى أثناء القصف الجوى لطائرات الحلفاء.. صمدت وبقيت لوحات فاسيلى فوق عروشها لتُباع لوحته «فيوج» عام 1990 بـ23 مليون دولار، وكانت جابرييلا قد منحت متحف ميونخ هدية ثمينة عبارة عن بضع مئات من أعماله ورسومه بالإضافة إلى عشرات من مذكراته واسكتشاته، وفى الوقت نفسه باعت الأرملة والزوجة الأصلية للفنان نينا اثنتين من لوحات الزوج بنصف مليون دولار لتشترى بها قلادة من الماس من محلات كارتييه، وفى اليوم التالى ظهرت فى دار الأوبرا بصحبة أحد الشباب وهى ترتدى القلادة!

وإذا ما كان «فاسيلى كاندنسكى» رسامًا فقد كان إلى جوار ذلك شاعرًا كتب أكثر من 38 قصيدة بين عامى 1908 و1911 يضم ديوانها 12 رسمًا بالألوان و44 بالأبيض والأسود، حيث لم يتم طبع ذلك الديوان إلا فى 340 نسخة فقط تبعًا لوصية صاحبه حتى بات من الصعب العثور عليه خاصة بعدما احترقت الوصية، وقد أوضح فى مقدمتها أنه رغم كفاحه فى عالم الرسم وجد أنه وحده لا يكفى ومن هنا أصدر ديوانه «أرانين» الذى حذف من خلاله المفاهيم القديمة والضيقة محطمًا ــ كما يقول ــ الجدران الحائلة بين الفنون، مثبتًا آخر الأمر بأن مشكلة الفن ليست مشكلة شكل وإنما مشكلة المضمون الروحى.

إحدى قصائد الديوان عنوانها «مغامرة» يقول فيها إنه زوّج النثر بالرسم، وإن كنت أرى فى غالبية أبياته شعور الفنان الخفى بسطوة المرأة ونزعته للانتقام منها، فى تلك القصيدة يقول:

«امرأة نحيفة لم تعد شابة يغطى وجهها حجاب مثل درع يلقى بظله على الوجه.. المرأة تجر وراءها عجلا مازال صغيرا وعاجزا عن الوقوف على قدميه المعوجتين.. أحيانا يسير العجل وراءها راضيا وأحيانًا يتمرد.. حينها تشد المرأة على الحبل. فيحنى رأسه وتتصلب سيقانه.. غير أن سيقانه ضعيفة ضعيفة والحبل لا ينقطع.. الحبل لا ينقطع».

وقصيدة بعنوان «الزبد الأبيض» :

أود أن أعرف لماذا الأمر هكذا وليس العكس.. من الممكن أن يحصل العكس.. العكس تماما..

امرأة تركب جوادا شديد السواد تقوده عبر حقول خضراء منبسطة.. لا أستطيع أن أرى نهايتها..

المرأة ترتدى ثيابا حمراء ووجهها مغطى بحجاب لونه أصفر مثل الكنارى..

المرأة تضرب الجواد بقسوة، غير أنه لا يستطيع أن يجرى بسرعة أكبر.. إنه يجرى بكل الأحوال سريعا ويزداد بياضا من خلال الزبد الأبيض الساخن..

المرأة تجلس منتصبة وتضرب الجواد الأسود..

ألا تظنون أن الأفضل أن يموت الجواد الأسود؟

إنه يزداد بياضا بسبب الزبد الأبيض الساخن!

غير أنه عاجز عن الموت.. لا.. إنه يستطيع أن يموت..

أليس من الممكن أن يحصل العكس.. العكس تماما وتموت المرأة!!

ولأن المقام لا يتسع لسرد قصائد أخرى لكاندنسكى ابن برج القوس ــ النارى المتقلب المزاج الذى يصعب التعامل معه أو التدخل فى شئونه الخاصة وإن حدث فإنه ينهى العلاقة بلا تردد ــ من قلب جميع الموازين ليجعل العالم المختفى عالمًا منظور وجعل اللامرئى مرئيًا، فإن المرأة أبدًا لن تموت كما يتمنى وسيظل الجواد ـ الرجل ــ يجرى جرى الوحوش وينفث صهدًا.


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: