رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المدينة والحداثة فى المجتمع المصرى

مصر الحديثة هى نتاج عملية التحديث الاجتماعى والثقافى السريع الذى شهدته البلاد منذ مطلع القرن التاسع عشر، والتى أكسبتها ميزات السبق والتفوق على دول المنطقة، فتحولت إلى مركز إشعاع لقيم الحداثة والتقدم، ونموذج جذاب لمجتمع شرقى مسلم يجمع بين الأصالة والحداثة فى صيغة ديناميكية مبدعة. فقدت مصر فى العقود الأخيرة الكثير من أسباب الحداثة والريادة التى ميزتها سابقا. تراجعت قيم الحداثة والتقدم، فنما لدينا شعور بالإحباط وفقدان الثقة بالذات. ما حدث له أسباب كثيرة متداخلة، ومنها تغير أدوار المدن فى النسيج الاجتماعى والثقافى المصرى، فتراجع الدور التحديثى للعاصمة القاهرة، رغم أنها بقيت مركزا للسلطة والثروة، فى نفس الوقت الذى زاد فيه دور المدن الإقليمية ذات الطبيعة شبه الريفية.

تغير القيم فى المجتمع المصرى يمكن أن يتم رصده على أكثر من مستوى، فعلى مستوى أول يمكن التركيز على القيم التى يؤمن بها الناس، والتى تظهر على سلوكهم وتصرفاتهم. وهناك مستوى ثان يعكس التطلعات والمزاج العام إزاء صورة المجتمع المرغوب وما يجب أن يسوده من قيم. الفارق بين المستويين كبير، ويمكن توضيح ذلك بأمثلة دالة. فالمصرى من أهل الريف فى مطلع القرن العشرين كان يرتدى الملابس التقليدية، ويدير جوانب حياته المختلفة وفقا لما هو متعارف عليه ومستقر بين أهل الريف. لكن إذا حدث وكان الشخص الذى نتحدث عنه من الميسورين القادرين على إرسال أبنائهم للمدينة البعيدة للدراسة فى معاهدها، فإنه لم يكن ليتردد فى فعل ذلك، وهو يعلم مسبقا أن هذه الخطوة ستؤدى إلى مفارقة الأبناء نمط الحياة الريفية، والقيم السائدة فى الريف، مقتربا من القيم المدينية الأقرب للحداثة. إقدام الريفى الميسور على هذا الاختيار يعكس تصوره لما يجب أن تكون عليه حياة الجيل التالى، واعتقاده بأن مكاسب التغيير الاجتماعى والثقافى تستحق التضحية التى يقدمها.

يتصرف أهل الريف الميسورون وغير الميسورين فى المرحلة الراهنة بالطريقة نفسها مع أبنائهم، لكن معنى الخطوة نفسها يختلف كثيرا فى مصر المعاصرة عنه فى مصر قبل ستين أو مائة عام. فالجامعات والمدارس أصبحت موزعة فى أنحاء مصر المختلفة بدرجة جعلتها قريبة من الريف. ومع انتشار وتقدم وسائل الاتصال والمواصلات وانخفاض تكلفتها لم يعد للسفر والغربة تكلفتهما المعنوية والنفسية العالية. فالسفر والانتقال يظل مغامرة طوال الوقت، لكنه أصبح فى الحقبة الراهنة مغامرة محسوبة يمكن توقع نتائجها والسيطرة على مخاطرها.

الانتقال للمدينة والارتقاء فى مراتب التعليم والوظائف لم يعد ينتج نفس المسافة الثقافية والنفسية والقيمية التى كان يخلقها فى مراحل الدخول الأولى للحداثة. فالفجوة بين المدينة والقرية لم تعد كما كانت عليه قبل مائة عام، والظاهرة المعروفة بترييف المدينة لا تقتصر فقط على أنماط المعمار إنما تنصب أيضا على أنماط القيم والسلوك السائدة فى المدن، والتى أصبحت تكتسى بصبغة ريفية واضحة. وبقدر ما أدى هذا إلى فقدان المدينة لجانبا كبيرا من دورها القائد فى عملية التحديث الاجتماعى والثقافى، فإنه من ناحية أخرى أدى إلى خلق درجة أكبر من الانسجام القيمى فى المجتمع المصرى. فبقدر ما تم ترييف المدن، فقد تم أيضا «مدينة» الريف، إذ لم تعد القرية المصرية تقف على نفس المسافة البعيدة التى كانت تفصلها فى الماضى عن المدينة.

ما حدث خلال نصف القرن الأخير من توطين لخدمات التعليم والإدارة وأنشطة التجارة والخدمات فى المدن الإقليمية كان له أبلغ الأثر فى تغيير معنى الحداثة والتحديث. المدينة الإقليمية فى الأصل ليست سوى قرية كبيرة، فهى لا تختلف كثيرا عن القرية من حيث نمط المعمار أو شبكة الشوارع والطرق، وهى وإن واصلت القيام بوظيفة الإنتاج الزراعى، فيسكن المزارعون أطرافها ويفلحون الحقول المحيطة بها، فإنها قامت أيضا بوظائف الإدارة والتجارة. لقد أدى توطين مؤسسات التعليم والإدارة فى المدن الإقليمية خلال العقود الأخيرة إلى تحولها إلى وجهة للهجرة الداخلية بحثا عن التعليم والوظيفة العامة، الأمر الذى أدى إلى إضعاف أثر التحويل الثقافى والنفسى الذى أنتجته الهجرة إلى المدينة الكبيرة البعيدة طوال القرن التاسع عشر وقسم كبير من القرن العشرين. فإذا أضفنا إلى ذلك عوامل القرب الجغرافى وسهولة وتواتر العودة للقرية، فإن كل ذلك أسهم فى الإبقاء على التقاليد والقيم الريفية ناشطة وفعالة بين موجات المهاجرين إلى المدينة.

أعود للسؤال الذى تم طرحه فى بداية هذا النقاش لأقول إن الريفى الميسور الذى كان يرسل ابنه للمدينة للالتحاق بمؤسسات التعليم الحديث وللفوز بوظيفة فى جهاز الدولة الحديثة الناشئ كان يعكس تصورا لصورة المجتمع المرغوب، وهى الصورة التى كان يغلب عليها الطابع المدينى الحديث، المتأثر بالغرب إلى حد كبير، الأمر الذى لا ينطبق على السلوك نفسه فى المرحلة الراهنة. فرغم مواصلة الناس إلحاق أبنائهم بمؤسسات التعليم الحديث فإن التحول المرغوب المترتب على ذلك يتضمن الكثير من الرغبة فى تأمين المستقبل الوظيفى والمهنى وتعزيز المكانة الاجتماعية، ولكنه لا يبدو مرتبطا بتصور لمجتمع يختلف جذريا عن المجتمع القائم، والذى تشابهت فيه الأرياف مع المدن، وتراجع فيه وهج حلم الحداثة المتأثرة الذى هيمن على أجيال عدة فى الماضى.

استعادة دور العاصمة كقاطرة للتحديث والتقدم، والأهم من ذلك تعزيز قدرة المدن الإقليمية على إشعاع الحداثة فى محيطها سيستعيد لتقدمنا الاجتماعى والثقافى بعضا من الزخم الذى كان له.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: