رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

‮«‬خوان ميرو»‬.. العصفور القادم من برشلونة

فنان لا تستطيع أمام لوحاته الملونة إلا أن تقع فى غرام مفرداتها الطفولية المرحة الساذجة السابحة فى الفضاء والتى انتشرت رسوم مدرستها السهلة على جميع المستويات فى العالم أجمع، وإن اختفت معظم تلك الأشكال البهيجة من فوق أرضية اللوحة مع تقدم الفنان فى العمر ليرسم يومًا مجرد نجم ومثلث على أرض فراغ فتُباع اللوحة «النجم الأزرق» فى مزاد لندنى أخير بمبلغ يتجاوز الـ23 مليون جنيه استرلينى وذلك لمجرد وجود الإمضاء العالمى خوان ميرو.

ولعل أكثر الأقوال التى عبرت عن فن‮ «‬خوان ميرو‮» ‬ما قاله عنه النحات السويسرى‮ «‬ألبرتو جياكوميتى‮»: «‬إذا أردنا أن نعرف روعة ميرو وتفرده على ساحة الفن،‮ ‬فإن سقوط ثلاث قطرات ملونة من ريشته على قماش اللوحة الأبيض لكفيل بأن تغدو لوحة متكاملة العناصر‮ ‬يقبل عليها المشاهد بشغف بالغ‮ ‬للوصول إلى معرفة عالم وأبعاد وتأويلات كل نقطة على حده‮» ‬ويُعبِّر الفنان‮ «‬خوان براتس‮» ‬عن فن صديقه‮ «‬ميرو‮» ‬بقوله: (عندما أجمع أنا الحصى الصغيرة تغدو مجرد حصى تغطى كآلاف‮ ‬غيرها أرض الطريق،‮ ‬لكنها عندما‮ ‬يجمعها ميرو تُصنف وحدها بأنها‮ «‬حصى ميرو»).. ومن هنا أُطلق على خوان ميرو لقب‮ «‬ساحر الفنانين‮»‬،‮ ‬لأن فى استطاعته خلق عمل فنى من أى شىء‮ ‬يقع تحت‮ ‬يده وأمام ناظريه،‮ ‬وكان البحر من أهم المؤثرات التى حركت خياله لتطفو رموز لوحاته فوق سطحه وإن لم‮ ‬يضع فى اعتباره لون زرقته،‮ ‬فيكفيه أن‮ ‬يُلون قماش اللوحة بلون أساسى متوحد متخلياً‮ ‬فى ذلك عن خط الأفق،‮ ‬لتضيع النقطة المركزية فى اللوحة فى فضاء كلى ترتسم فوقه التشكيلات الخيالية البعيدة عن الواقع لتبدو وكأنها حيوانات خرافية صغيرة أو عناكب،‮ ‬أو مخلوقات مبهمة التفاصيل مهجنة بمخلوقات فضائية لم تقع عليها عين البشر من قبل،‮ ‬وتلك الأشكال تتضاعف خلالها وحولها الفراغات والمسافات،‮ ‬وبذلك أدخل ميرو بأعماله تلك مفردات مستحدثة ومختلفة كلية عن المألوف فى قاموس اللغة التشكيلية،‮ ‬تتجمع تحت واجهة اللاموضوعية لطابعها التجريدى العام،‮ ‬والتى اعتبرها العديد من نقاد الفن بمثابة ضحكات فنية مرحة تتواثب على سطح اللوحة لها حساسيتها الخاصة وآذان استشعار بارزة تتقافز براداراتها فى الفضاء اللانهائي‮.. ‬وفى تحليل لأشكال ميرو السابحة فى اللانهائية‮ ‬يُرجع بعض النقاد جذورها إلى خلطة من هندسات‮ «‬موندريان‮» ‬وخامات‮ «‬كاندنسكي‮» ‬التشكيلية.


‬وبين اتجاهات النقد المختلفة حول فن‮ «‬خوان ميرو‮» ‬لا‮ ‬يُنكر أحد أنه قاد تيارًا‮ ‬خاصًا‮ استلهمه من نظريات‮ «‬فرويد‮» ‬فى التحليل النفسى ليغدو الواقع هو اللاشعور،‮ ‬وهو المفهوم الذى طوره العالم النفسى‮ «‬يونج‮» ‬القائم على أن قوانين اللاشعور تتكون من تراكم الأساطير والذكريات وأمور أخرى لا عقلانية انحدرت من الحياة البدائية عند البشر‮.. ‬ولا أحد‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يغفل مهما تكن ‬غربة مفردات ميرو على سطح لوحاته من أنها أجزاء من التكوين الإنسانى الداخلى مع إشارات تشكيلية للعوالم الخارجية للإنسان،‮ ‬وهنا‮ ‬يقول ميرو‮: «‬إن الأشياء التى أراها أشياء حية مثل السيجارة‮.. ‬علبة الكبريت‮.. ‬المنضدة‮.. ‬الكرسي‮.. ‬الشجرة‮.. ‬الخ جميعها تملك حياة سرية تفوق فى بعض الأحيان حياوات الكثير من الأشياء الحية نفسها وإذا ما بدت أنها أشياء صامتة فإنها تمتلك حركتها الخاصة وبُعدها الفعّال داخل الفضاء‮.. ‬ولوحاته إذا ما بدت متحركة أو‮ ‬غير متحركة إلا أنها مفعمة بالحياة‮.. ‬وهكذا فإن ميرو عندما رسم رموز الأحلام قام بذلك لتحرير الاصطلاحات التشكيلية التقليدية لممارسة حريته الكاملة ليحشد رموزه المبتكرة المجردة التى أصبحت بمثابة لمسة المرح المضيئة فوق أى حائط توضع فوقه‮..‬


«خوان ميرو‮» ‬المولود فى برشلونة فى‮ ‬20أبريل‮ ‬1893‮ ‬ــ ابن الساعاتى الإسبانى «ميشيل ميرو ادزبراس» والأم «دولوريس فيرا» التى كان والدها نقاشاً‮ ‬فى مدينة‮ «‬بالما‮» ‬فى جزيرة‮ «‬مايوركا‮» ‬الإسبانية ــ ‬حيث كان ميرو‮ ‬يعشق الذهاب لزيارة جده الحداد فيها ليلهو فى أجوائها الساحرة التى اختارها فيما بعد لتكون مكانا لمرسمه المطل على البحر‮.. ‬وقد ظهر ولع‮ «‬ميرو‮» ‬بالرسم منذ كان فى السابعة من عمره،‮ ‬حيث تلقى دروساً‮ ‬خاصة فى الرسم ليلتحق بعدها بمدرسة التجارة تبعاً‮ ‬لرغبة والده،‮ ‬إلا أنه عاد تلميذاً‮ ‬للفن فى أكاديمية الفنون «‮» ‬La linja‮‬التى كان بيكاسو طالباً‮ ‬فيها من قبل،‮ ‬ويضطر ميرو لكسب رزقه للالتحاق بوظيفة أمين مكتبة فى شركة‮ «‬دلمو أوليفرز‮» ‬فى برشلونة،‮ ‬لكنه بعد عامين من الفشل والتعاسة الوظيفية سقط مريضاً‮ ‬ليترك سلك الوظائف بعد فترة النقاهة ليكمل مسيرة الفن‮.. ‬ميرو بدأ حياته الفنية كرسام فطرى للمناظر الريفية فى مقاطعة كاتالونيا التى كانت عاصمتها الإقليمية‮ «‬برشلونة‮» ‬أحد أبرز القلاع الأوروبية للحركة‮ «‬الفوضوية‮» ‬التى انتشرت أفكارها فى الثقافة والفن،‮ ‬وتركزت على التخلص من الواقع فى العمل الفنى،‮ ‬كما أن ألوانه الساخنة المرحة تعود إلى مرحلة الطفولة التى أمضاها فى مناطق أمريكا الوسطى وقد أكد ميرو طوال حياته أهمية مسقط رأسه الإسبانى وخاصة مزرعة الأسرة فى‮ «‬مونتروك‮» ‬ــ التى حصلت عليها العائلة من إرث عائلى جاء متأخرا ــ كمصدر لإلهامه،‮ ‬وخلال حياته المديدة لم تخذله رغبته المُلحة فى أن‮ ‬يبدع فناً‮ ‬يستمد جذوره من الإقليمية ليغدو فناً‮ ‬عالمياً،‮ ‬وتتجلى هذه الرغبة فى أعماله المبكرة،‮ ‬وتشهد أعمال الفترة من‮ ‬1915‮ ‬إلى‮ ‬1919‮ ‬وهى اللوحات التى رسمها فى برشلونة ــ فور انتهاء رحلته الأكاديمية فى الرسم ــ بمحاولات ميرو لبلوغ‮ ‬أسلوب خاص وسط تيارات الحداثة المصطخبة فى ذلك الوقت‮.. ‬وتشهد هذه الأعمال،‮ ‬فى نفس الوقت،‮ ‬تأثيرات لسيزان إلى جانب لمحة من الفن الحوشى والتكعيبى،‮ ‬كلها منصهرة معا والتى ‬يعتبرها النقاد على رأس أعمال القرن العشرين الفنية عامة التى بشرت بالواقعية السحرية،‮ ‬وهى عمل فنى موسوعى‮ ‬يُسجل بلغة كالشفرة جميع مكونات فن ميرو فيما بعد‮.‬


وفى بداية عام‮ ‬1920‮ ‬قام ميرو برحلته الأولى إلى باريس،‮ ‬ولم‮ ‬يكن قد بارح إسبانيا إلى الخارج قبلها،‮ ‬وسحرته باريس بشكل لا‮ ‬يقاوم ليزور هناك بيكاسو،‮ ‬ويتعرف على‮ ‬غيره من الفنانين والأدباء ومن بينهم هنرى ميللر وإرنست هيمنجواى والشاعر أراجون،‮ ‬كما التقى بالفنانين والشعراء السيرياليين،‮ ‬وعندما تيقن بيكاسو من أن ميرو سيكون فنانا له قامة شامخة فى عالم التشكيل اشترى منه لوحة‮ «‬بورتريه شخصي‮» ‬التى رسمها ميرو لنفسه عام‮ ‬1919‮ ‬وكان‮ ‬يبدو فيها ناظراً‮ ‬للفضاء بنظرة عنيدة حازمة تشع بالتأهب لتغيير السيمفونية التشكيلية من أساسها‮.. ‬وفى باريس عاش فى حالة فقر وعوز شديدين حتى إنه كان‮ ‬يمضى أياماً‮ ‬لا‮ ‬يأكل فيها سوى التين المجفف ويلوك اللبان،‮ ‬لكنه ظل فى مظهره أنيقاً‮ ‬لا‮ ‬ينتمى للمظهر الهمجى السائد للفنانين من حوله خاصة السرياليين،‮ ‬ومنذ تلك الرحلة حتى أوائل الثلاثينيات كان‮ ‬يقضى النصف الأول من كل عام فى باريس والنصف الثانى فى‮ «‬مونتروك‮» ‬وبرشلونة،‮ ‬وفى تلك الأثناء أخذ معه فى حقيبته أعشاباً‮ ‬من مونتروك ليكمل برسمها لوحة‮ «‬الحقل المحروث‮» ‬التى أنجزها فى باريس واشتراها بعدها‮ «‬أرنست هيمنجواي‮» ‬فى عام‮ ‬1925الكاتب الأمريكى الشهير الذى كان يعمل وقتها مراسلا لإحدى جرائد مدينة تورنتو فى باريس، وقام باقتراض ثمنها الذى كان 500 فرنك فرنسى فقط، ‬ومن بعد لوحة «الحقل‮» يُبدع الفنان لغة وفضاء‮ ‬ينفرد بهما مستلهمًا ‬تجارب شعراء مذهب‮ «‬الدادا‮» ‬والسرياليين وغيرهم ممن كانوا‮ ‬يتجمعون فى مرسمه فى باريس الواقع فى شارع‮ «‬بلوميه‮».. ‬وقد اعترف‮ «‬ميرو‮» ‬بهذا التأثير الشعرى فى رسالة إلى الشاعر‮ «‬ميشيل ليري‮» ‬Michel leiris‮ ‬فى صيف‮ ‬1924‮ ‬يقول فيها‮: «لقد قدمت لى أنت وأصدقائى الشعراء الآخرون عونا كبيرا وطورتم مفاهيمى لأشياء كثيرة‮».. ‬وفى الوقت الذى كان فيه ميرو‮ ‬يستلهم الشعر فى لوحاته خلال صيف وخريف‮ 5291 ‬بدأ‮ ‬يُخطط لسلسلة أخرى من الأعمال وعددها سبع لوحات أطلق عليها لوحات المشاهد الطبيعية الخيالية وبعد سنوات قضاها موزعاً‮ ‬بين فرنسا وإسبانيا،‮ ‬عاد‮ «‬ميرو‮» ‬فى عام‮ 2391 ‬إلى برشلونة ليعيش هناك معيشة دائمة من جراء وضعه المالى المتدهور ــ وكان فى عام‮ 9291 ‬قد تزوَّج من‮ «‬بيللر جونكوزا‮» ‬ثم أنجب ابنته الوحيدة دولوريس ــ ‬إلى جانب أن انهيار السوق المالية فى نيويورك فى بداية الثلاثينيات قد أثر على أوروبا كلها تأثيرا بالغاً،‮ ‬واستمر ميرو خلال عام‮ ‬1932‮ ‬فى أعمال الكولاچ الضخمة مستخدما قصاصات الكتالوجات والصحف،‮ ‬ثم عودة إلى التصوير لتبدأ أعماله التى تُعرف عادة باسم‮ «‬اللوحات المتوحشة‮» ‬التى تعكس المناخ السياسى المضطرب الذى ساد إسبانيا فى السنوات المؤدية إلى الحرب الأهلية التى اشتعلت فى‮ ‬يوليو‮ ‬1936،‮ ‬وفى نوفمبر من العام نفسه كان ميرو فى فرنسا،‮ ‬حيث عاش مع أسرته حتى عام‮ ‬1940‮ ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬يملك مرسماً‮ ‬لهذا لم‮ ‬يجد مجالا‮ ‬ولا مكاناً‮ ‬لتنفيذ عدد ضخم من الأعمال والمشروعات التى تتطلب استقرارا طويل الأجل،‮ ‬وكان قد ترك عددا كبيرا من الأعمال‮ ‬غير المنتهية فى برشلونة‮.. ‬وفى‮ ‬يناير‮ ‬1937‮ ‬قرر أن‮ ‬ينتقل إلى اتجاه جديد تماما،‮ ‬وبدأ‮ ‬يرسم لوحته‮ «‬طبيعة صامتة مع حذاء قديم‮» ‬التى أطلق عليها النقاد اسم لوحة‮ «‬جارنيكا ميرو‮» ‬وتلك المرة الأولى منذ سنوات طويلة‮ ‬يقوم فيها ميرو بالنقل عن‮ «‬موديل‮» ‬والموديل هنا هو الحذاء الذى وضعه ليرسمه أمامه على المائدة،‮ ‬وهى أبعد ما تكون عن الواقع التاريخى والسياسى للوحة بيكاسو التى رسمها تعبيرا عن المقاومة الشعبية‮.. ‬وفى العام‮ نفسه ‬1937‮ ‬قام ميرو بعمل جدارية ضخمة لجناح الحكومة الإسبانية فى معرض باريس العالمى،‮ ‬وفى عام‮ ‬1938‮ ‬قام مع عائلته بزيارة منطقة‮ «‬فارينجفيل‮» ‬على الشاطئ النورماندى،‮ ‬حيث استوديو الفنان التشكيلى‮ «‬براك‮» ‬والفيللا الملحقة التى‮ ‬يعيش فيها مع عائلته،‮ ‬وهناك قام‮ «‬ميرو‮» ‬باستئجار فيللا‮ «‬ليه كلوزيس سانسونيت‮» ‬ليبقى فيها حتى شهر مايو‮ ‬1939‮ ‬حين‮ ‬يعود إلى باريس بسبب تقدم الجيوش النازية،‮ ‬حيث‮ ‬يتراجع‮ «‬ميرو‮» ‬إلى‮ «‬مايوركا‮».. ‬وفى أثناء إقامته فى بيته فى نورمانديا بمنطقة‮ «‬فارينجفيل‮» ‬استغرقه نوع من التأمل التقهقرى أى إلى الوراء مصطحباً‮ ‬مع هروبه رعب الفاجعة التى خيمت على أوروبا كلها‮ «‬لقد شعرت برغبة عميقة فى الهدوء‮.. ‬وبهدوء أغلقت نفسى داخل نفسى ولم‮ ‬يعد‮ ‬يستنهض رسومى وريشتى سوى الليل والموسيقى والنجوم‮» ‬ومن هنا فإن صمت‮ «‬ميرو‮» ‬عن الاشتراك فى السياسة جعله عُرضة لانتقادات الشيوعيين والمتعاطفين معهم من النقاد الفنيين الذين قالوا إن الرجعية سخرته ليكون فى خدمتها ووضعته فى مواجهة بيكاسو،‮ ‬هؤلاء ظلموا ميرو فلم‮ ‬يكن صمته لا مبالاة وإنما رغبة المقاومة بشمولية الفن والمخاطر التى تتوعد الفنان حتى ليصف الأجواء فى عام‮ ‬1939‮ ‬بقوله‮: «‬دع قوى الظلام المدعوة بالفاشية تمتد أكثر ولتدفعنا عميقا نحو الطريق الأعمى للقسوة وعدم الفهم،‮ ‬حيث‮ ‬يكون فى ذلك نهاية البشرية‮».‬


ويُعد ‮«خوان ميرو‮» ‬ أحد أبرز المؤسسين للمذهب السيريالى فى الفن،‮ ‬ومن أوائل الموقعين على بيانها الأول الذى صدر عام‮ 4291 ‬وأعلن ثورته خارج أى اهتمام جمالى أو أخلاقي‮.. ‬لقد وجد ميرو فى حضن السريالية ــ مع نزوحه إلى باريس ــ ضالته وملاذه التعبيرى التلقائى والمباشر،‮ ‬ووجدها أسلوباً‮ ‬وسلوكاً‮ ‬فى التفكير والشعور والحياة وظل مخلصاً‮ ‬لأهدافها،‮ ‬فالسريالية فى رأيه هى الوسيلة الوحيدة للتخلص من هيمنة العقل والإيمان المطلق ببساطة الحلم والتعبير اللاإرادى الذى‮ ‬يمليه عادة الوعى الإنسانى،‮ ‬ومن هنا كتب خوان ميرو عن السريالية قوله‮: «‬إننى القادم من رحم السريالية ومازال فى قلبى حب كبير للسريالية وأعمالها،‮ ‬لأنها لم تعتبر عملية الرسم إنجازاً‮ ‬ينتهى بنهاية محدودة،‮ ‬فاللوحة تعيش طويلا،‮ ‬وهى كالبذور إذا ما وضعت فى التربة فسوف تنبت الحياة وأشياء أخرى جليلة‮».. ‬وقد تفرد ميرو عن‮ ‬غيره من فنانى السريالية بنزوعه نحو التبسيط الشديد والاختزال المطلق،‮ ‬فلم‮ ‬يظل‮ ‬يمارس صناعة ورسم اللوحة تبعا لمقتضيات المفاهيم الفنية السابقة،‮ ‬فتخلى عن خط الأفق لتتحول اللوحة عنده إلى فضاء كونى مسطح مما جعل عين الناظر تنحرف عن النقطة المركزية لتغدو مشدودة إلى الفضاء الكلى بمفرداته الجديدة تبعا لعوالم ميرو الخاصة‮.‬


وتُعد مجموعة ميرو‮ «‬الأبراج السماوية‮» ‬التى رسمها ما بين عامى‮ ‬1940‮ ‬و1941‮ ‬من أهم أعماله التشكيلية وعدد لوحاتها‮ ‬23‮‬لوحة تم تنفيذها خلال الحرب العالمية الثانية فى‮ «‬فارينجفيل‮» ‬بساحل نورماندى وتبين هذه المجموعة مدى قوة ديناميكية الفنان التصويرية ومخيلته الشعرية،‮ ‬وكل منها تعبير عن علاقة البشر بالفضاء،‮ ‬وقد وصفها الشاعر الفرنسى‮ «‬أندريه بريتون‮» ‬بأنها بيان مقاومة فى وجه كارثة عالمية،‮ ‬وبرغم أن ميرو استمر‮ ‬ينتج فنا خلال الأربعين سنة التالية حتى وفاته فى‮ ‬1983‮‬عن عمر‮ ‬يناهز التسعين،‮ ‬يكاد إجماع النقاد على أن‮ «‬الأبراج السماوية‮» ‬كانت بمثابة الذروة التى بلغها فنه فى عام‮ ‬1941‮ ‬ليبدأ بعدها مرحلة الانحدار من القمة التى استحق فيها لقب صاحب عبقرية القرن العشرين الذى قام بتفريغ‮ ‬قماش اللوحة من كل شيء تقريبا عدا الإحساس باللون والفورم،‮ ‬حيث‮ ‬يرى النقاد فى ثنايا تلخيصه وزهده هذا قمة الجسارة والشجاعة والقسوة على نفسه قبل قسوته على المشاهد،‮ وإذا ما كان رأى النقاد أن ثنائية «‬جاودى ودالى‮» ‬أبلغ‮ ‬ما وصل إليه الفن السريالى من عبقرية‮ فإن ميرو ليس أقل من أى واحد منهما، وإن كان قد اقتبس بعضا من أعماله من تشكيلات المهندس السريالى العملاق جاودى الذى بنى كنيسة‮ «‬ساجرادا فاميليا‮» ‬بأبراجها الشبيهة بالأخطبوط واعترافه بفضل المهندس‮ «‬خوزيب ماريا خوخول‮» ‬وأعماله الجدارية التى دُمرت فى الحرب الأهلية الإسبانية‮..‬


ويعتقد المؤرخ الفنى‮ «‬ريتشاردسون‮» ‬أن نبع الإلهام قد نضب تقريباً‮ ‬بعد مجموعة لوحات‮ «‬الأبراج السماوية‮» ‬فى عام‮ ‬1941،‮ ‬ورغم أن خوان ميرو عاش بعد تلك المجموعة أربعين عاما أنتج فيها الكثير كان اعتقاد المؤرخين والنقاد أنها كانت بمثابة قمة إفرست فى فنه،‮ ‬والتى أخذ‮ ‬يكررها فى نسخ مكبرة وباهتة حتى عام‮ ‬1947‮ ‬حيث سافر بعدها لأمريكا فى زيارة استغرقت ثمانية أشهر ليصبح بعدها أسيراً‮ ‬للتعبيرية التجريدية،‮ ‬وذلك عندما شاهد نماذج من لوحاتها الأمريكية فصرخ قائلا: «إننى أستطيع أن أرسم مثلها الكثير وبأحجام ضخمة»،‮ ‬وبالفعل دخل ميرو الميدان وخاض التجربة لينتج أعمالا ‬قيل فيها إنه خلط تربة ألوانه بسماد عضوى فجعلها تنمو نمواً‮ ‬غير طبيعى وغير مغذي‮.. ‬وهناك عامل آخر قد أثر على فن ميرو بعد رحلة‮ «‬الأبراج السماوية‮» ‬وهو ارتفاع أسعار لوحاته بعد الحرب العالمية الثانية ليغدو موضة مثل النحات البريطانى هنرى مور ويصبحان معا منفذين وليسا مبدعين للنصب التذكارية وحوائط السيراميك الضخمة،‮ ‬وأينما‮ ‬يتجول السائح فى شتى أنحاء العالم سوف‮ ‬يلتقى بأعمال ميرو المتضخمة من هارفارد إلى أوساكا،‮ ‬ومن مقر اليونسكو فى باريس إلى مطار برشلونة‮.. ‬الخ‮.‬‬


ولم تكن اللوحات الزيتية وحدها ميدان فن‮ «‬خوان ميرو‮» ‬فقد تجولت‮ ‬يده ومخيلته فى إخراج فنه من داخل خامات أخرى مثل المنحوتات البرونزية والرسم على جلد البقر والحفر بطريقة طباعة الحجر على الورق وتلك الطريقة استغرقت منه أعمالا‮ ‬لها قدرات تعبيرية فذّة وغالبيتها بالأبيض والأسود وحققها فى برشلونة فى الفترة ما بين‮ ‬1939‮ ‬إلى‮ ‬1944‮ ‬وتبلغ‮ ‬روعتها عندما أدخل الزجاج بين الورق والحجر فى أسلوب الطبع للحصول بواسطة الاحتكاك على تقنية جديدة لم‮ ‬يسبق لها مثيل،‮ ‬حتى إن تاجر الفن الشهير‮ «‬إيمى ماج‮» ‬وضع مطبعته الخاصة تحت تصرف‮ «‬ميرو‮» ‬فى عام‮ ‬1948‮ ‬فقام برسم لوحات كتاب الشاعر‮ «‬تريستان تزارا‮» ‬على تلك المطبعة،‮ ‬ولم‮ ‬يكتف ميرو فى تلك الفترة بالطباعة على الورق بل تدرج فى أسلوب طباعته ليستخدم الأقمشة المختلفة،‮ ‬حتى إنه وهو فى الثمانين من عمره عاد إلى عالم الحفر‮ ‬Gravure‮ ‬ليرسم مطبوعات لملصقات تتعدى الواحدة الثلاثة أمتار بفضل المطبعة العملاقة التى امتلكها وقام عليها بتجارب حديثة بواسطة الكمبيوتر‮.. ‬وفى عالم الحفر والطباعة كان الطائر والمرأة هما الموضوعان الرئيسيان فى لوحاته اللذين‮ ‬يتجليان معا،‮ ‬أو كل واحد على حده،‮ ‬وتشهد عناوين الأعمال التى كان‮ ‬يكتبها الفنان بالفرنسية على ظهر اللوحات تأثير المرأة وعلاقتها بالطائر فى وجدانه ومنها عنوان‮ «‬طائر مهاجر‮ ‬يقف على رأس امرأة فى منتصف الليل وهما معا من لا‮ ‬يذوقان النوم‮»‬،‮ «‬طائر مهاجر‮ ‬يقف على صخرة فى منتصف البحر والمرأة هناك وحدها على شاطئ الرمال‮»‬،‮ ‬و«شعرات مغناطيسية ثلاث لشقراء جميلة تجذب الفراشات وطائرها لا‮ ‬يطير‮»‬،‮ «‬السير العسير فى هُدى عصفور الصحراء المتوهج‮»... ‬وتظهر المرأة‮ ‬غالباً‮ ‬وحيدة ومركزية فى أعمال ميرو الحفرية على شكل ساحرة مشعوذة أو محبطة باكية،‮ ‬وحين تكون فى رفقة شخص ما،‮ ‬يبقى هذا الشخص ثانوياً‮ ‬مُستبعداً،‮ ‬وأحياناً‮ ‬يتم الاستهزاء به،‮ ‬كما فى مطبوعة‮ «‬السيدة وزوجها الضئيل‮» ‬ويشكل الرجال فى اللوحات مجموعات كحراس الغابة أو المهرجين،‮ ‬أما رفيق المرأة الأمين فدائماً‮ ‬هو العصفور الذى وجد فيه خوان ميرو ما‮ ‬يغريه‮: «‬فى ريشه‮.. ‬فى طيرانه‮.. ‬فى تغريده‮.. ‬فى انسيابية خطوطه‮.. ‬فى وقع خطواته على الأرض‮.. ‬فى انطلاقة حريته‮.. ‬فى معرفته للعش الذى‮ ‬ينتمى إليه‮».. ‬وحين‮ ‬يرسم‮ «‬ميرو‮» ‬على القماش أو الورق شكل العصفور فإنه‮ ‬يعطيه من جذوة فنه الكثير لإحساسه الباطن بأنه نفسه ما هو إلاّ‮ ‬عصفور جاء من إسبانيا ليغرد فى سماء الفن فابتّل ريشه لسنوات لكنه العصفور الإسبانى الذى قال معبراً‮ ‬عن فلسفته ونهجه فى الفن: «‬ينبغى دائما أن تغرس قدميك جيدا فى الأرض إذا أردت أن تكون عصفورا قادرا على أن تقفز فى الفضاء‮».‬

عاش‮ «‬ميرو‮» ‬تسعين عاماً‮ ‬وتوفى عام‮ ‬1983‮ ‬فى‮ «‬بالما دى مايوركا‮» ‬بعدما فقد بصره، وكان واحداً‮ ‬من كبار رسامى القرن العشرين‮.. ‬عاش عصفوراً‮ ‬مُفعماً‮ ‬بالعطاء‮ ‬يتنقل من‮ ‬غصن إلى‮ ‬غصن فى مدن أوروبا وأمريكا،‮ ‬لكن الشجرة الوارفة فى مسقط رأسه برشلونة ظلت ملجئاً‮ ‬وملاذاً‮ ‬ونبعاً‮ ‬لإلهامه الذى حمله تحت جناحيه لينتجه فنا عالميا فى باريس‮..‬

«ميرو‮» عصفور الفن الذى أصبحت أقواله بمثابة المأثورات ومنها قوله‮: «إننى أريد أن أرسم اهتزاز الأرض المُفعم بالقوة تحت أقدام شخص ما‮ ‬يمشى فوقها واثقاً‮ ‬من خطاه»… ‬و«إننى نجحت فى الخروج بأعمالى إلى المطلق».. ‬و«فى بعض أعمالى‮ ‬غنائيات أكثر من الخيال مما‮ ‬يمتعنى وأنا أرسمها وأيضاً‮ ‬بعدما تعلق على الجدار».. و«فرشاتى متمردة على الجاذبية فى الرسم،‮ ‬فأنا على طول الخط ضد الخنوع للتطبيقات الفنية المتوارثة والمتداولة».. و«خلال محنة إسبانيا عشت أحداث التراجيديا كاملة التى فضلتها فى العزلة التامة متيحاً‮ ‬لعذاباتى وسط السكون أن تبرزها لوحاتي»،‮ «عندما رسمت الحمار فى الريف الإسبانى تبدى لى وحيداً‮ ‬مستكيناً‮ ‬فيه من رقة المشاعر وزهد الحكيم وصبر الزاهد وحكمة الفيلسوف،‮ ‬ولا‮ ‬يشبه أى حمار آخر،‮ ‬وأرضه لا تشبه أى أرض،‮ ‬وملمسه الناعم‮ ‬يدعوك لمداعبته،‮ ‬ورغم مظهره الصامت بلا رفيق فليس بحمار مريض،‮ ‬ولا تظهر عليه أثار إعياء أو إرهاق،‮ ‬لكنه امتداد للأرض المحيطة به فى ذهبيتها التى امتصت لون ذهب الفجر والغروب»..‬


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: