عندما قرأ أحمد أمين الأديب الكبير ومحرر مجلة الثقافة، مقال سياحة فى العالم الذى كتبه الدكتور مشرفة كان رد فعله مغايرا لرد فعل نجيب محفوظ المبجل للعلم والمعلى من شأنه والذى أوردناه فى المقال الأول. كتب أحمد أمين مقالا بعنوان: سياحة فى العالم، فى العدد 242 من مجلة الثقافة بتاريخ 17 أغسطس 1943، جاء فيه: قرأت هذه الأيام كتاب الدكتور مشرفة «مطالعات علمية» ووقفت طويلا عند مقال له عنوانه: سياحة فى فضاء العالمين، وقد أعد لهذه السياحة مركبا من أشعة النور يسير بسرعة الضوء فيقطع فى الثانية 186 ألف ميل وسيصرف نحو يوم فى سياحته حول المجموعة الشمسية، فيصل إلى الشمس فى ثمانى دقائق ويمر على المشترى والمريخ وزحل إلخ، فإذا جاوز المجموعة الشمسية إلى أقرب نجم من مجموعة أخرى قطع المسافة بينهما فى أربع سنين وسيرى فى هذا العالم مجموعات من السدم، كل سديم مؤلف من مئات آلاف الملايين من النجوم بينها مسافات تقدر بعشرات السنين الضوئية، وسيرى أن محيط الكون يقدر بنحو سبعة آلاف مليون سنة ضوئية. أضاف أحمد أمين معلقا: قرأت هذا فوجدت أنى أملك خيرا من هذه المطية، وأسرع من هذا الضوء وهو خيالى وفكرى الذى يستطيع أن يرحل إلى هذه العوالم فى لحظة ويطوف حول الكون فى لمحة. ومن أين لى بآلاف الملايين من السنين والعمر قصير والمدى طويل؟!. ينتقل بعدها أحمد أمين فيحدثنا أنه ركب مطية من خياله وطاف بها العالم فى رحلة عجيبة وأنه عاد من تلك الرحلة بنتائج مبهرة رأى فيها الأرض: لا تساوى فى هذه العوالم قطرة من البحار ولا ذرة من الرمال وأن الأرض بما عليها من جبال وبحار وأنهار ونبات وحيوان وإنسان لا تساوى شيئا وصدق الأثر إن دنيانا عند الله لا تزن جناح بعوضة. ويستمر فى تفسير نتائج رحلته معلقا بأن أرضنا بناسها وحيوانها ونباتها وجبالها، ليست إلا موجة صغيرة على شاطئ المحيط، ونحن محصورون فى حدود ضيقة، كما أننا محبوسون فى حدود حواسنا التى لاتدرك من العالم إلا اللذة والألم وإنما يستطيع التجرد من ذلك كله أحيانا الفلاسفة والمتصوفة والشعراء فيخترقون حجب المظاهر ويحسون فى لحظات بالسمو عن هذه الجزيئات فيلفون العالم فى لمحة ويغرقون فى بحر العالم من غير اختناق. ويحكى لنا أنه لم يصادف فى رحلته غير قليل من أهل الأرض وهم طائفة من الشعراء ليس منهم أبو نواس ومدرسته الذين غنوا للخمر واللذات الجسمية ولا أبو تمام والبحترى ومدرستهما ممن غنوا للملوك واستجدوا الأغنياء، فهؤلاء جميعا التصقوا بالأرض ولم يرفعوا أعينهم إلى السماء وأنه عرج فى طريق عودته على طائفة من الفلكيين والمنجمين كانت ميزتهم أنهم اكتشفوا حقارة الأرض وعظم السماء وشغلوا بالمسافات والأبعاد وتحليل الأشعة ورسم الخرائط الجوية، لكنهم وقفوا عند المظاهر ولم ينفذوا منها إلى قلبها النابض ولذلك لم أرهم إلا حين قاربت الأرض.
بعد قرابة ثلاثة أشهر كتب الدكتور مشرفة ردا على الأستاذ أحمد أمين فى العدد 254 من مجلة الثقافة بتاريخ التاسع من نوفمبر 1943، عنوانه: مقام الإنسان فى الكون. يقول الدكتور مشرفة: كنت قد لجأت فى كتابى إلى حيلة لقياس أبعاد الكون الكبيرة فحملت القارئ فى مركب من أشعة النور يسير بسرعة 186 ألف كيلومتر فى الثانية وانطلقنا فى رحلة خيالية نذرع فيها الفضاء من كوكب إلى كوكب ثم من من شمس إلى شمس ثم من عالم إلى عالم، وقد رأى الأستاذ أحمد أمين أنه يملك خيرا من هذه المطية، وأسرع من هذا الضوء وهو الخيال فى الفكر الذى يستطيع أن يرحل إلى هذه العوامل فى لحظة ويطوف حول الكون فى لمحة، فركب هذا الخيال وطاف هذه العوالم فى رحلة عاد منها بنتائج باهرة. علق الدكتور مشرفة على مقال أحمد أمين وتفسيره لنتائج رحلته وإكثاره من المعانى بقوله: «حديث السعادة والشقاء والملذات والآلام والجمال والقبح لا يقع من النفس فى قليل ولا كثير ولا يزيد فى السمع على طنين ذبابة»، ختمها بقوله إننى أعتب على الأستاذ أحمد أمين أنه لم يتعرف فى رحلته على العلماء الذين أدركوا الحق وعشقوه وهاموا به من أمثال إقليدس والحسن بن الهيثم ونيوتن، فقد روى أنه عرج فى طريقه للعودة على طائفة من الناس ظنهم من الفلكيين شغلوا بالمسافات والأبعاد وتحليل الأشعة ولكنهم وقفوا عند المظاهر، ولذلك لم يرهم إلا حين قارب الأرض، وأغلب الظن عندى أن هؤلاء الذين رآهم الأستاذ فحسبهم من العلماء إنما هم جماعة المقلدين والمدعين وما أكثرهم فى الأدب والعلم على حد سواء. ولعل الرحلة قد بهرت منه البصر أو خدعه بريق الزغل، ولو أنه نظر فى الملأ الأعلى لرأى رجالات العلم ممن تجردوا عن الحياة الدنيا وسموا بعقولهم إلى المنتهى فكشفوا عن أسرار الكون وبرهنوا على وحدة الوجود وامتزجت نفوسهم وعقولهم بالحق والخير والجمال والسلام.
كانت هذه هى المعركة الوحيدة بين العلم والأدب فى تاريخ الثقافة المصرية، ولو أنها اشتعلت ودامت مثل كثير من المعارك الأدبية التى حدثت فى القرن العشرين ورصدها أنور الجندى بداية من عام 1914، فى كتابه المعارك الأدبية، لأثرت الثقافة المصرية وزادتها تفردا وعلوا. كانت هذه المعارك نوعا أدبيا تفردت به الثقافة المصرية بين الكثير من الثقافات. رحم الله العمالقة الثلاثة الذين تركوا للثقافة المصرية أعمالا تكفى مصر الكلام عند التحدى.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: