رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نحو علاج للوهن الأخلاقى

يتداول مفهوم الوهن الخلقى Moral Decline فى الأوساط الثقافية والدينية منذ زمن طويل، وهو يشير فى معناه إلى تراجع الأخلاق أو انحدارها، أوضعفها، حيث تشير كلمة الوهن إلى الضعف والخمول والانقباض. ولم يدرج علماء الاجتماع على استخدام الكلمة ،وذلك لأنها كانت أكثر استخداماً من قبل القائمين على شئون الوعظ الدينى والمثقفين الأكثر تأثراً بالنزعات المتشائمة التى سادت فى أوساط المجتمعات الحديثة عبر فترات تاريخية مختلفة على أثر التحولات الكبرى والثورات الكبرى والأزمات الكبرى أيضاً. ولقد عاودت الكلمة الظهور فى عصرنا الراهن على أثر التفكير فى الجوانب الأخلاقية للحداثة، وإدراك الحقيقة التى مفادها أن هذه الأزمة الأخلاقية قد صاحبت الحداثة منذ نشأتها، وأنها أصبحت أكثر إلحاحاً وأشد تأثيراً الآن.

ولقد دفع هذا الوضع علماء الاجتماع إلى الدخول فى حلبة هذا الميدان، لإعادة تفسيرات نظريات قديمة خاصة نظرية دوركايم. ولقد أنتج ذلك اتجاهاً لاستخدام مفهوم سوسيولوجيا الوهن الخلقى، ومحاولة تأصيلها فى ضوء إعادة قراءة للأفكار التى طرحها علماء الاجتماع وعلماء النفس المعاصرون فى مشاكلتهم لقضايا مثل العولمة، وثقافة الاستهلاك، وتناقضات المجتمع الرأسمالى، وقضايا الثقة واللامبالاة وغيرها من القضايا التى طلت برأسها على المجتمعات على أثر التطورات الهائلة فى وسائل الاتصال، والنمو المفرط للأسواق، والاختراقات الهائلة لرأس المال فى كل نواحى الحياة.

من الطبيعى إزاء هذه التغيرات أن يتحرك الأفق البحثى والنظرى نحو النظر بقوة فى أزمة الأخلاق فى العالم، وإلى إعلان الحديث عن وجود هذه الأزمة بشكل صريح، فى إطار ما أصبح يسمى بعلم اجتماع الوهن الخلقى (أو التراجع الأخلاقي). يشاكل هذا الفرع الجديد قضية الوهن الخلقى من زاويتين: الأولى تعيد نحت الأفكار الدوركايمية حول الضمير الجمعى، وسلطة القواعد الأخلاقية، ودورها القهرى فى ضبط سلوك البشر، لكى لا تسقط المجتمعات فى حالة من اللامعيارية التى تنعكس فى أشكال شاذة من تقسيم العمل، وفى صور من عدم الاحساس بالمعايير (الحالة التى أطلق عليها حالة الانوميا الاجتماعية). ويذهب هذا التوجه إلى القول إن المجتمعات الرأسمالية قد أصبحت مجتمعات تعانى فرط سيطرة المادة، وينزع الأفراد فيها نحو التحيز لذواتهم وملذاتهم، الأمر الذى جعلهم أكثر أنانية وأكثر نرجسية. وقد أدى هذا الوضع إلى أن تضعف التقاليد وتفقد القواعد الأخلاقية قوة قهرها على الناس. لم تعد القاعدة العامة تشد الأفراد، فهى لم تستدمج داخل ذواتهم على القدر المطلوب، ولذلك فإن الأفراد يكونون أكثر ميلاً إلى هجر القواعد وهجر التقاليد فى مقابل البحث عن المتع الحسية والانزواء خلف النرجسية الفردية. لقد ترك الأفراد للدوافع الشخصية وحب الذات، فدأبوا على المصالح الشخصية، وهربوا من الحدود، فغابت الضوابط الاجتماعية.

وعلى الضفة الأخرى من النهر يجادل فريق من زاوية ثانية. فهم أقرب إلى الانطلاق من الرابطة الاجتماعية او من مفهوم رأس المال الاجتماعى، الذى يشكل نسيج المجتمع المتماسك. وعلى هذه الخلفية يفسر الوهن الخلقى فى ضوء فكرة انهيار الرابطة الاجتماعية، بدءاً من الأسرة ومروراً بالمجتمع المحلى، وانتهاء بالمجتمع الكبير. فالأسرة تشهد تفككاً ينعكس فى تزايد معدلات الطلاق، كما تتحول الأسرة النووية الصغيرة إلى أسرة منعزلة، ويفقد المجتمع المحلى الارتباطات القائمة على الالتزام الطويل المدى، ويقل حضور المجتمع فى عقول الأفراد وضمائرهم. يترتب على ذلك أن تتشظى الهوية، وتفقد الثقة، وتتقلص التبادلية القائمة على تعايش طويل المدى مع الآخر، ويحل محلها التبادلات العارضة التى غالباً ما تكون مادية أو ذات غرض وهوى.

ولا يكتفى أهل الطريقتين بتشخيص حالة الوهن الخلقى على النحو الذى عرضناه، ولكنهم يتأملون إمكانية للتغلب على هذه الحالة من الوهن. وهم إذ يسعون إلى ذلك فإنهم لا يقبلون قط أفكار ما بعد البنيوية التى تراهن على نمو الذات الفردية، وتحملها بالطاقة الأخلاقية عبر التأمل الانعكاسى والنقد الذاتى، ونزع الأطر التقليدية الجامدة. لا توجد هنا ثقة فى هذه الحلول، وإنما الثقة تتجه نحو إعادة الاعتبار للقواعد العامة، لحكم القانون، وحكم العرف والعادة، والضمير الجمعي. أو بإعادة الاعتبار إلى الجماعة عبر آليات لإعادة بناء الأسرة، وإعادة بناء المجتمع المحلى، وتعميق الهوية الجماعية والروح الجماعية.

ورغم ذيوع مفهوم الوهن الخلقى فى الدوائر العلمية الاجتماعية، فإن الأفكار التى دارت حوله تكون عرضة لنقد شديد إذا ما واجهناها بأفكار نظرية أخرى تطورت فى كنف السياق نفسه، وتأملت الهموم والمشكلات نفسها. نفكر فى هذا السياق فى أطروحات ما بعد البنيوية من ناحية، وأخلاقيات ما بعد الحداثة، والدراسات الجندرية. ثمة خيط غليظ يربط هذه الاتجاهات جميعاً يغزل على فكرة تفكيك السرديات الكبرى، والأطر الجامدة، والقواعد الثابتة، والرجوع إلى التنوع والتفتح، ومنح الثقة للذات لتؤسس تمكنها ومعارفها ووعيها. فبدلاً من جلد الأفراد واضفاء الرومانسية على المجتمع وأطره العليا، فإن ثمة أفقاً أخلاقياً فى بناء الذات الإنسانية، وأن الذات الفردية قادرة على أن تطور أخلاقها الخاصة، وأن تعبر من خلال ما تملكه من «مُكنة الفعل» و»مُكنة المعرفة» من أن تكون ذاتاً قادرة على التأمل وتوليد الأخلاق الذاتية. والحقيقة أن وضع هذه الرؤى فى مقابل بعضها يؤشر على معضلة أخلاقية. ويبدو الأمر وكأننا نحل الأزمة الأخلاقية بأزمة فكرية، أو معضلة فكرية على أقل تقدير. تتلخص هذه المعضلة فى ثنائية الذات فى مقابل المجتمع، ثنائية الفعل فى مقابل البناء. وأحسب أننا – ونحن نتأمل هذه الثنائية – لا يجب أبداً أن نتحيز إلى أحد قطبيها، فكل فعل يؤدى إلى بناء، وكل ذات تؤدى إلى مجتمع. فالأطر الأخلاقية العامة ذات الطابع العمومى والقهرى (وهى تمثل المجتمع) تعتبر ضرورية، كما أن الذات الحرة الطليقة القادرة على تطوير أخلاق خاصة تعتبر ضرورة أيضاً. وأحسب أن تكامل الجانبين على نحو معتدل هو الذى يؤطر للأخلاق الجمعية الفاضلة، الأمر الذى يجعلنا لا نكف قط عن بناء الذات ولا نكف قط عن بناء القواعد العامة، فهما صنوان لا ينفصلان.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: