فى عام 1975 نشر نجيب محفوظ كتابه «حكايات حارتنا» الذى يضم 78 حكاية, أو قصة قصيرة بعضها صفحة وبعضها صفحتان, وقد يكون هو الوحيد فى العالم الذى كان يمتلك التنوع الفكرى الذى مكنه من خلق وإبداع ذلك النوع من القصص الميكروسكوبية والتى تحتاج الى قدرات عظيمة مثل التى كان يمتلكها محفوظ وحده لتخرج للناس متكاملة بتلك الروعة والحكمة، وكأن كل واحدة منها قصة طويلة ذات حبكة وتفاصيل وتشعر القارئ بأنه ذكى لأنه يفهمها، ويظل أثرها عالقا بذاكرته. لقد بحثت كثيرا فلم أجد قصصا قصيرة مثل قصص نجيب محفوظ تلك. هذه المجموعة القصصية لا غنى عنها لفهم حياة محفوظ الى جانب سيرته التى أملاها على رجاء النقاش وحواراته التى سجلها مع محمد سلماوى وعدد فبراير 1970 من مجلة الهلال. ما يعنينى هنا الحكاية 77, وهى حكاية أنور جلال الذى كان جالسا على سلم السبيل الأثرى وهو يضحك عاليا يظنه الراوى سكران أو مسطولا فيقترب منه ويجلس الى جانبه ويسأله عن سبب الضحك فيجيبه دون الكف عنه: تذكرت أننى طالب بين طلبة متنافسين,فى تجمع بين طلبة الأزقة المتخاصمة, فى وسط حارات متعادية, وأنى كائن بين ملايين الكائنات المنظورة وغير المنظورة, فى كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لى عليها, والمجموعة ضائعة فى وسط سديم هائل, والسديم تائه فى كون لا نهائى, وأن الحياة التى أنتمى إليها مثل نقطة الندى فوق ورقة شجرة فارغة, وأن على أن أسلم بذلك كله ثم أعيش لأهتم بالأحزان والأفراح, لذلك لا أتمالك نفسى من الضحك. ضحك الراوى معه طويلا حتى حدجه أنور جلال بنظرة ساخرة وسأله هل تضمن أن تشرق الشمس غدا؟, فيجيبه الراوى أستطيع أن أراهن على ذلك, فيرد عليه أنور جلال وهو يضحك: طوبى للحمقى فهم السعداء.
هذه الحكاية تحويل فلسفى وأدبى لمقال بعنوان سياحة فى فضاء العالمين من كتاب مطالعات علمية للدكتور على مصطفى مشرفة نشره عام 1943, ومن الواضح أن محفوظ تأثر به فى هذه الحكاية. يقول الدكتور مشرفة إن غرضه من المقال الشبيه بالحكاية هو إدخال السرور على نفس القارئ والترويح عنه من نصب الحياة على هذه البسيطة, وأى شىء أبهج أو أروح للنفس من السياحة إذا كان الغرض منها النزهة والاطلاع على ما احتواه الكون من كل بديع وجميل. ويضيف ولما كانت سياحتنا ستقتضى قطع مسافات شاسعة فقد أعددت للقارئ حيلة عجيبة الشأن تمكننا من وجوب كل ما بعد عن الأرض واتسع من فضاء الكون, ذلك أننا سنمتطى شعاعا من النور نوجهه حيث شئنا فيحملنا فى طريقنا بسرعة الضوء. فى الجزء من سياحتنا سنصرف قرابة يوم فى مجموعتنا الشمسية فرحلتنا من هنا الى الشمس تستغرق نحو ثمانى دقائق، ومن الشمس نستطيع أن نرى المجموعة الشمسية، بأسرها مؤلفة من الكواكب التسعة وسنرى كلا منها يدور حول الشمس ومعه أقماره أو توابعه فى فلك يسبحون. بعدها نفارق المجموعة الشمسية الى أقرب نجم إليها فنصله بعد أربع سنين، ومن هذا النجم تظهر لنا المجموعة الشمسية بأسرها كنقطة صغيرة فى الفضاء وسنستمر نزور النجوم المختلفة فنقطع ما بين النجم والذى يليه فى بضع سنين حتى نصل الى حدود العالم الأدنى أى العالم الذى شمسنا أحد نجومه، فإذا خرجنا عن هذا العالم وسرنا بضعة آلاف السنين ثم نظرنا وراءنا وجدنا هذا العالم مكونا من جمع غفير من النجوم على شكل مبطط يشبه الرغيف ووجدنا الشمس واحدة من هذه النجوم قريبة من مركز الرغيف. هذا العالم هو العالم المجرى. وإذا أردنا أن نعبره من أقصاه الى أقصاه استغرق هذا العبور منا نحو مائة ألف سنة وربما استغرق عشرة أمثال هذا الزمن. ولنرحل عن العالم المجرى فننتقل الى السدم اللامجرية فنصل إليه فى بضع ملايين السنين. ثم لننظر من هذا السديم الى العالم المجرى فنجد مظهره كسحابة صغيرة فى سمائنا يشبه ما تظهر عليه السدم إذا ما نظرنا إليها من الأرض. فالأرض التى نعيش عليها يمكن اعتبارها نقطة تافهة فى المجموعة الشمسية التى يبلغ أكبر قطر فيها بضع ساعات ضوئية ثم إن المجموعة الشمسية بأسرها يمكن اعتبارها نقطة تافهة فى العالم المجرى الذى قد يبلغ أكبر قطر فيه نحو نصف مليون سنة ضوئية، ثم إن العالم المجرى بأسره إن هو إلا أحد مئات الألوف من العوالم المتفرقة فى الفضاءالذى لا نعلم له الى الآن حدا ولا نهاية.
قراءة ما كتبه مشرفة فى عام 1943, كان له عظيم الأثر فيما كتبه محفوظ عام 1975. استطاع محفوظ الأديب الفيلسوف فى حكايته صياغة ما كتبه العالم على مصطفى مشرفة, صياغة أدبية فلسفية لتخرج للقارئ وكأنها منتج تم إنتاجه عبر خط إنتاج أساسه العلم وروحها الفلسفة والأدب. كان محفوظ مؤمنا بالعلم وبأنه المخرج الوحيد من كل الأزمات. له كثير من الأقوال المأثورة على لسان أبطاله تؤيد ذلك: تذكر أن لكل عصر أنبياءه وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء.. السكرية. لو كنا من العلماء الذين ينفقون عشرين عاما من العمر فى البحث عن معادلة لما عرفت التعاسة الى نفوسنا سبيلا... الشحاذ. لا منقذ لنا سوى العلم, لا الوطنية ولا الاشتراكية, العلم والعلم وحده وهو يواجه المشكلات الحقيقية التى تعترض مسيرة الإنسانية... المرايا. رحم الله محفوظ فى ذكرى رحيله السادسة عشرة ورحم مشرفة.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: