أعاد رحيل ديفيد تريمبل إلى الأذهان دوره المحورى فى صنع السلام فى أيرلندا الشمالية, وإنهاء الصراع المذهبى-السياسى عبر مفاوضاتٍ صعبة بين حزبه البروتستانتى المؤيد للبقاء ضمن المملكة المتحدة، والجيش الجمهورى الكاثوليكى الذى سعى للانفصال. بدت تلك المفاوضات, حين أُعد لها فى أواخر 1997, محاولة يائسة لإنهاء توترٍ مذهبى خلق حربًا أهلية حصدت عدة آلاف على مدى نحو ثلاثة عقود. كانت المسافة بعيدة والثقة معدومة بين طرفى ذلك الصراع الدموى، فضلا عن الانقسام الذى خلقته المفاوضاتُ فى صفوف كل منهما.
غير أنه فى مقابل تلك العوائق وغيرها, كانت ثلاثة عقود من الصراع الدموى كافية لتليين مواقف المفاوضين، ومنحهم قوة معنوية مستمدة من رغبتهم فى حقن الدماء وتضميد الجراح وترميم التصدع الخطير الذى حدث فى نسيج المجتمع، وإتاحة الفرصة للشباب للتطلع إلى المستقبل بدلا من البقاء فى أسر الماضى الذى أضاع جيلين على الأقل.
ولهذا لم يكن نجاح تلك المفاوضات فى إنجاز تسوية تاريخية مفاجئًا تمامًا، بعد تجاوز مرحلتها الأولى الأشد صعوبة. وحين وُقع اتفاق الجمعة العظيمة (10 أبريل 1998)، وُلد نموذجُ جديدُ لصنع السلام عبر تسوية حقَّقت لأنصار البقاء ضمن المملكة المتحدة هدفهم، ومنحت دعاة الانفصال دورًا مساويًا فى نظامٍ سياسى يقوم على تقاسم السلطة مع الاستجابة لطلبهم بشأن ضمان علاقة خاصة لجمهورية أيرلندا، وأن يكون لمن يرغب بينهم الحق فى حمل جنسيتها إلى جانب الجنسية البريطانية، وعدم مصادرة حلمهم فى تكوين أيرلندا متحدة فى المستقبل. وبعد إقرار الاتفاق فى استفتاء عام، واصل تريمبل مهمته لضمان وفاء الجناح العسكرى للجيش الجمهورى الأيرلندى “شين فين” بتعهده نزع سلاحه.
لكن تريمبل لم يكن ذلك الرجل المنفتح المحب للجميع بخلاف ما يدل عليه دوره فى صنع السلام، إذ لم يستطع التحرر من التعصب المذهبى، والتخلص من بغضه للآخر الكاثوليكى، وكراهيته العميقة لزعيم “شين فين” جيرى أدامز. وكان هذا حال كثيرٍ ممن يُعدون صانعى سلام فى العالم0 فالكمالُ لله وحده، و”الحلو ما يكملش” إلا فى الأحلام.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: