شكل اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الذى تم توقيعه الجمعة الماضية بين روسيا وأوكرانيا برعاية الأمم المتحدة وبوساطة وضمانات تركية، اختراقا مهما للأزمة الروسية الأوكرانية التى دخلت شهرها السادس، ولا تزال تراوح مكانها.
اتفاق تصدير القمح يتضمن تصدير ما يقارب 25 مليون طن من القمح الأوكرانى من خلال ثلاثة موانئ أوكرانية أبرزها ميناء أوديسا، وعبر ممرات آمنة فى البحر الأسود لتصل إلى اسطنبول ثم يتم إعادة تصديرها إلى بقية دول العالم، كما أنه يشمل ضمانات أمنية تركية بتفتيش السفن الداخلة والخارجة من الموانئ الأوكرانية لضمان عدم تهريب الأسلحة فيها. هناك عوامل عديدة وقفت وراء نجاح توقيع هذا الاتفاق، أولها: الضغوط الدولية على روسيا الناجمة عن أزمة الغذاء العالمية، كما أنه اتفاق إنسانى يسهل التوصل إليه بخلاف الاتفاق العسكرى الذى يتعلق بالحرب ويواجه تحديات كثيرة. وثانيها: أن الاتفاق يشمل إعادة تصدير الحبوب الأوكرانية المخزنة من العام الماضى، وهو ما يحقق لأوكرانيا فوائد مهمة أبرزها الحصول على ثلاثة مليارات دولار مقابل بيع القمح مما يساعدها فى شراء الأسلحة الغربية ودعم اقتصادها المنهار، كما أن الاتفاق ينص على عدم مهاجمة الموانئ الثلاثة التى يتم التصدير منها خاصة أوديسا وهو ما يوقف أى تقدم عسكرى روسى تجاه هذا الميناء الحيوى. وثالثها: بالنسبة لروسيا فإن الاتفاق يظهرها أمام العالم أنها ليست المسئولة عن أزمة الغذاء العالمى وأن لديها المرونة فى تصدير الحبوب من أراضيها ومن أوكرانيا وهو ما يفند الاتهامات الغربية لها باستخدام سلاح القمح لتجويع العالم والضغط على أوكرانيا. كما أن السفن سيتم تفتيشها من قبل تركيا عبر غرفة عمليات مشتركة تضم روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة، إضافة إلى أن روسيا حصلت على ضمانات بتسهيلات لتصدير حبوبها للخارج فى ظل العقوبات الغربية، وهو ما يسهم فى زيادة مواردها المالية ويخفف وطأة العقوبات عليها.
كما أن هناك فوائد أخرى للاتفاق على الأمن الغذائى العالمى، حيث ستسهم إعادة تصدير الحبوب الأوكرانية والروسية فى تخفيف أزمة الغذاء العالمية وانخفاض أسعار الحبوب خاصة القمح التى ارتفعت بشكل كبير خلال الشهور الماضية وكان لها تأثيرات سلبية على الدول النامية خاصة فى إفريقيا والشرق الأوسط. وقد انخفضت بالفعل أسعار القمح للعقود الآجلة بنسبة 3% عقب توقيع الاتفاق، لكن الاتفاق وتصدير القمح لن يحل الأزمة العالمية بشكل كبير لأن نسبة الحبوب الأوكرانية لا تتجاوز 4% من إنتاج العالم من القمح، كما أن الاتفاق مدته أربعة أشهر فقط. إضافة إلى أن عملية التصدير لن تبدأ قبل أسابيع لتجهيز الممرات الآمنة، فضلا عن أنه لم يتضمن إزالة الألغام البحرية، وارتفاع تكاليف الشحن والإمداد، فانفجار أى لغم فى إحدى سفن شحن القمح يهدد بانهيار الاتفاق، خاصة أنه تم استهداف ميناء أوديسا بصواريخ روسية بعد الاتفاق بساعات. إضافة إلى أن روسيا وأوكرانيا لم يوقعا الاتفاق بشكل مباشر وإنما بشكل منفصل مع تركيا الضامنة للاتفاق، وهو ما يعنى استمرار فجوة عدم الثقة بين الجانبين، وأن هناك عوامل براجماتية ومصلحية دفعت الطرفين لتوقيع الاتفاق.
لكن هل يسهم الاتفاق ودبلوماسية القمح فى حلحلة وإنهاء الحرب الأوكرانية؟ الواقع أن الاتفاق يمثل خطوة مهمة فى اتجاه انفراج الأزمة الأوكرانية، ويعطى رسالة مهمة بأن الطرفين قادران على توقيع اتفاقات مشتركة حتى وإن كان بشكل غير مباشر، كما أن وجود الأمم المتحدة فى الاتفاق يمثل ضمانة مهمة ويعزز من دور المنظمة الدولية فى الأزمة، لكن فقط على المستوى الإنسانى، حيث تم استبعاد مجلس الأمن من حل الأزمة الروسية الأوكرانية بسبب وجود روسيا فى مجلس الأمن واستخدامها حق الفيتو ضد أى مشروع قرار لإدانتها، حيث فشلت الدول الغربية فى استصدار قرار من المجلس لإدانة روسيا او المطالبة بوقف الحرب.
كما أن إنهاء الحرب يرتبط بعوامل أخرى أبرزها موازين القوى العسكرية على ارض الواقع والتى ستحدد توقيت وطبيعة المفاوضات ومن ثم إنهاء الحرب، وحتى الآن هناك حالة من الضبابية حول طبيعة ومسار العمليات العسكرية، فرغم أن روسيا سيطرت على جمهورية لوجانسك وتسعى للسيطرة على جمهورية دونيتسك بشكل كامل وبالتالى السيطرة الكاملة على إقليم دونباس، وتحرز بالفعل تقدما عسكريا واضحا إلا أنه تقدم بطىء بسبب الدعم العسكرى الغربى للقوات الأوكرانية خاصة منظومات الصواريخ الأمريكية هيمارس وهاربون عالية الدقة، وهو ما يبطئ من تقدم القوات الروسية لكنه لم يغير موازين القوى العسكرية بشكل كامل حتى الآن. وفى ظل إصرار روسيا على تحقيق أهدافها العسكرية وأبرزها السيطرة على الدونباس وتقرير مصيره وضمه لروسيا، وفى ظل استمرار الدعم العسكرى الغربى لأوكرانيا، فمن الصعب القول إن دبلوماسية القمح ستسهم فى إحداث انفراجة كبيرة فى اتجاه إنهاء الحرب.
وبالتالى اتفاق تصدير القمح والحبوب الأوكرانية واستئناف روسيا لتزويد الغرب بالغاز عبر خط نورد ستريم 1، يعنى أن كلا من روسيا وأوكرانيا والغرب بدأ فى التعايش مع استمرار الحرب وفصل المسارات، أى العمل فى المسار الإنسانى والاقتصادى لأسباب مصلحية خاصة بطرفى الحرب ولعوامل اقتصادية خاصة بأوروبا وأمريكا، مع استمرار المسار العسكرى الذى سيحدده موازين القوى على الأرض ومدى تحقيق روسيا لأهدافها.
لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد رابط دائم: