عندما قص سيدنا إبراهيم على ابنه أن الله قد أمره بذبحه، كان رد سيدنا إسماعيل على أبيه «..يا أبتِ افعل ما تؤمر..» لم يتذمر أو يبدِ الخوف، أو يستدر عطف أبيه، لعله يتراجع، بل امتثل بكل رضا وخضوع لأن يذبحه أبوه، فى تجسيد للتضحية بالنفس من أجل رضا الله، وكانت تضحية سيدنا إبراهيم تفوق ابنه، عندما يذبح فلذة كبده الذى أنجبه فى كبره، والذى يحبه أكثر مما يحب نفسه، لكنه امتثل وأطاع، لتكون تضحية الأب والابن ذروة الخضوع والتقرب إلى الله، ولهذا كان كرم الله ورحمته بالأب والابن بالعفو والبركة.
هذا الدرس السماوى يمنحنا قيمة راقية، تجعل من التضحية بأغلى ما نملك سبيلا لرضا الله، وتنفيذا لأوامره، التى لا يمكن أن تكون إلا رحمة ومغفرة وعفوا. وقيمة التضحية ينبغى أن تكون نبراسا فى حياتنا، وإن كانت بالقدر اليسير الذى لا يرقى إلى تضحية سيدنا إبراهيم وابنه، وإنما بما تيسر لنا من قدرة على العطاء، دون انتظار لكسب مباشر، فالعمل الجاد مع الرضا بالقليل نهض بأمم تحولت من الفقر والمجاعات والأوبئة إلى دول عظمى، فالصين التى كان يعيش مئات الملايين من سكانها فى حالة من الفقر المدقع، وتحصد المجاعات ملايين الضحايا، ويموت الملايين من أمراض متوطنة، لأنهم لا يجدون ثمن العلاج، نهضت بفضل تضحيات ملايين العمال والفلاحين والمهنيين وكل فئات الشعب، التى قررت أن تعمل كثيرا، وتتعلم أكثر، ولا تحصل إلا على القليل، حتى تنهض الدولة فى زمن لن يراه من ضحوا بالعمل الشاق، وبذلوا الجهد والعرق .. ولا تنفرد الصين وحدها بهذه التضحيات التى شملت شعوبا بأكملها، وقررت أن تضحى من أجل المستقبل، ولأنها دول لم تكن تملك ما يكفى من المال لتحسين الحياة، فقد قررت أن تمنح الحياة للأجيال الجديدة، وأن تترك لهم إرثا بالتقدم خطوات إلى الأمام على حساب مستوى معيشتهم، ومعظم الدول الناشئة اعتمدت على تلك التضحية العامة التى شملت كل فئات الشعب، وتبارى الجميع فى إنكار الذات من أجل حياة أفضل للأجيال الجديدة، فتحولت إلى بلاد تنتج الكثير وتنفق القليل حتى لحقت بالدول العظمى، وبهذه الروح المتفانية فى العطاء يمكن أن تواصل التقدم.
لقد قدم لنا ديننا الإسلامى النموذج الأصعب فى التضحية بالذات وفلذة الكبد، ومنه نتعلم كيف تكون التضحية مفيدة، ولو بالقليل، وأن نرى المستقبل ماثلا أمامنا ليمنحنا الدافع إلى العلم والعمل والأخذ بأسباب التقدم والنماء، بينما الأنانية والسعى وراء الكسب السريع يؤديان إلى فناء الحضارات وانهيار الأمم، عندما يريد كل فرد أن يأخذ أكثر مما يستحق، ويتهرب من واجباته فى تحصيل العلم وبذل الجهد فى العمل، ويسوق الحجج لكى يحصل على أكثر مما يحتاج، وعندما تنتشر هذه القيم السلبية فإنها يمكن أن تحقق بعض الكسب على المدى القصير، لكنها تورث الفاقة والتدهور للأجيال اللاحقة.
عندما أقرأ وأشاهد تجارب دول بازغة مثل الصين وماليزيا وسنغافورة وكوريا والهند وغيرها من البلدان التى استطاعت أن تقهر الفقر والجهل، وأن ترفع ناتجها القومى وتضاعفه فى سنوات، أجد أن القاسم المشترك بين هذه الدول كان التضحية. فى الهند كان المهاتما غاندى لا يرتدى إلا غطاء بسيطا، وينسجه على نول يدوى، وتبعه الشعب الذى قرر الاستغناء عن السلع البريطانية، وأن يستخدموا أدوات بدائية، ثم يطوروها بما ادخروه من مال وعلم وعمل، لتتحول الهند إلى أكبر منتج للبرمجيات فى العالم، وتنتج ما يفيض عن حاجتها من الغذاء.
وهكذا كانت الصين وبلدان قررت بإرادة وعزيمة أن تكون من بين الدول الفتية، وكانت التضحية أهم أدواتها فى اللحاق بركب الدول الغنية، وكانت مصر لا تقل فى مستوى تطورها عن تلك الدول، وكانت مرشحة لأن تكون فى صدارة البلدان الأكثر نموا، وحققت لسنوات معدلات نمو عالية، لكن تفشى الروح الفردية، والسعى إلى الكسب السريع جعل الفلاحين يبيعون الطين الخصب لتشتريه مصانع الطوب وتحرقه، لبناء بيوت على أرض زراعية خصبة، ويتعدون على الأرض السوداء التى تكونت فى آلاف السنين مما حمله النيل من التربة المفتتة من أعالى الجبال إلى الوادى والدلتا، وأصبح التعدى على الأرض الزراعية والبناء المخالف مصدر ثراء للبعض على حساب المستقبل.
وهكذا تفشت الأنانية والرغبة فى الثراء السريع فى مختلف المهن، فى سباق محموم على الاستهلاك دون إنتاج، بل على حساب الجودة والإنتاج والعمل والعلم، فكانت النتيجة أن تراجعنا إلى الوراء تحت وطأة الأنانية، وعدم النظر إلى المستقبل، بينما تقدمت الدول التى احترمت قيمة العمل والإنتاج والعلم، وضحت أجيال من أجل بلوغ هذا الهدف.
إن عودة الحج إلى بيت الله الحرام بعد عامين من الانقطاع بسبب الإغلاق الناجم عن تفشى جائحة كورونا، واحتفالنا بعيد الأضحى الذى يعلى من قيمة التضحية والفداء، فرصة لمراجعة الذات، وأن نستعيد الدرس الربانى الذى تعلمناه من ديننا الحنيف، وقدمه سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل، لندرك أن قيمة التضحية لا تضيع هباء، وإنما تمنحنا الرضا والسعادة والثقة فى المستقبل، وقبل أن نفكر فى الأخذ والكسب السريع علينا أن نضع المستقبل أمام أعيننا، وأن نعبد الطريق أمام أبنائنا وأجيالنا الجديدة، ونورثهم ما ينفع، وأن نعطى قبل أن نأخذ، وأن نعمل بجد حتى نستحق الكسب، خاصة فى مثل تلك الأزمات التى تضرب العالم، ومن سيحققون النجاة والخروج بأقل الخسائر هم من سيبذلون الجهد ويدخرون من أجل المستقبل، ومن يعلمون أولادهم أن التقدم والتنمية لا يتحققان إلا بالعمل والعلم والتخطيط البعيد المدى، فلا حصاد إلا بالزرع، ولا إنتاج إلا بالجهد، ولا مستقبل إلا بالتخطيط والعلم، وليس بكثرة الأولاد يتحقق الأمان، إنما بتوفير ما يجعلهم قادرين على مسايرة العصر واستيعاب علومه والاجتهاد والإبداع، عندئذ سنكون أمة جديرة بالرقى والتقدم الذى نتمناه ونستحقه، ما دمنا استعدنا مبادئ التضحية التى نحتفل بعيدها، وكل عام ومصر والعالم بخير.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: