رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مع هيمنجواى من جديد

يوجد ازدهار كبير فى فن الرواية، ومع هذا لا تجد ضالتك الا مع من أحببت أعمالهم من كبار هذا الفن فى الماضى، الآن يوجد روائيون «شطار» يستدرجونك الى عوالم غير مأهولة، وبمهارة صاحب المهنة تخرج علينا أعمال جيدة الصنع، ولكن ينقصها شىء ما، كبير، وقد ينجح روائى مثل التركى أورهان باموق فى ترك بصمة واضحة من خلال رواية «اسمى أحمر»، أو الإيطالى أومبيرتو إيكو من خلال «اسم الوردة»، أو البرتغالى ساراماجو من خلال «كل الأسماء»، مما يعنى أنك تنتظر عملا عظيما كل عامين أو ثلاثة، عملا غير مشغول بآليات السوق والأكثر مبيعا، فنضطر ـــ نحن عشاق الحكايات والبشر ـــ من العودة الى الأعمال الخالدة، أعود الى دوستويفسكى وهيمنجواى وماركيز وبورخيس دائما، وفى أدبنا العربى الى نجيب محفوظ والى جواره خمسة أسماء على الأكثر.

الأرجنتينى بورخيس يغرد فى منطقة لا يزاحمه فيها أحد، والغريب أن هيمنجواى  ليس من عشاق دوستويفسكى، وماركيز ليس من عشاق هيمنجواى، ولكن الثلاثة بالنسبة لى هم الأقرب الى القلب، لأسباب يصعب تفسيرها، صاحب «العجوز والبحر» قال لسكوت فيتزجيرالد:«أبطال دوستويفسكى صغار السن، مراهقون، يتجرعون العواطف، والانفعالات المحمومة على بطون خاوية»، على عكس جويس الذى كان يهتم بفطور بطل «عوليس»، ليوبولد بلوم، قبل الدخول فى المتاهة التى أجهدت من أكمل قراءة الرواية، والكتابة فى أجمل حالاتها كما يقول صاحب «لمن تدق الأجراس» هى حياة فى العزلة، حياة الجماعة تلطّف وحدة الكاتب، لكنها لا تمنحه شيئاً لتطوير أدواته، يتماهى مع الحياة العلنية، لكنه فى المقابل يعرض فنه للتلف، لأنه حين يكتب لن يكتب إلا وحده، وعليه إن كان كاتبا جيدا أن يواجه الخلود أو التجرد من الخلود، فى كل يوم من أيام حياته، هيمنجواى (يوليو 1899ـــ يوليو 1961)، نجح بتجاربه الغزيرة فى الحياة وبحنوه على شخصياته، شخصياته التى تعيش عادة على حافة الخطر، أن يبتكر طريقة فى القنص من الصعب أن يتقنها غيره، ، صاحب «وليمة متنقلة» شارك فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخبير فى الصيد منذ طفولته، ومهووس بمصارعة الثيران، وعمل مراسلا صحفيا وأجرى حوارات مع أشهر الشخصيات فى عصره، وكتب روايات وقصصا تُرجمت إلى كل لغات الدنيا ، وتزوج أربع نساء، وأنجب خمسة أبناء، ونجا من حادثى طائرتين إحداهما تحطمت والأخرى انفجرت، و حصل على نوبل عام 1954وقبلها بعام على جائزة بوليتزر، ومع هذا تخلص من حياته بسهولة كما فعل عدد كبير من أهله، بول جونسون قال عنه فى كتاب «المثقفون»: «كان هيمنجواى يضع التجربة، والخبرة، فى حسابه البنكى، ثم يسحب منهما، لصالح أدبه»، كانت لغته خالية من الشحوم، لغة محايدة متقشفة، تعلمها من عمله كمراسل صحفى، البرقية ليس فيها صفات او أحوال، استثمر هيمنجواى جماليات البرقية فى الأدب :«ابحث عما أعطاك الإحساس، الفعل الذى أعطاك الدهشة، بعد ذلك اكتبه بوضوح، حتى يراه القارئ. كل شيء لا بد أن يتم باختصار، وباقتصاد، وببساطة، وبأفعال قوية، وبعبارات قصيرة. النثر معمار، وليس ديكورا داخليا»، لم ينظر حول الكتابة، آراؤه كانت تبدو انطباعية، ومع هذا ترك بعض النصائح للكتاب، مكتوبة بطريقته الآسرة البسيطة، مثل: «استهل الكتابة بجملة حقيقية، تستطيع دائما التوقّف عن الكتابة المخصصة لليوم مادام لديك فكرة بما سيحدث بعد ذلك، لا تفكر بالقصة إذا كنت لا تعمل عليها، اقرأ كل ما كتبته قبل أن تكمل العمل على القصة، لا تصف المشاعر، بل اخلقها!»، معاناته مع الكتابة لخصها فى «موت فى الظهيرة»: واجهت صعوبة كبيرة مع الكتابة، بالإضافة إلى صعوبة معرفة ما تشعر به وما يجب أن تشعر به وما تعودت أن تشعر به، الصعوبة كانت فى تسجيل ذلك الحدث ضمن مجرى أحداث الرواية، فى تسجيل الأحداث الحقيقية التى هيجت تجربتك العاطفية، ففى الصحافة ستكتب الحدث وبخدعة أو بأخرى ستنقل مشاعرك بالكتابة، وذلك بسبب ارتباطها بعنصر الوقت، أى بأحداث ذلك اليوم..

لكن الوضع يختلف فى واقع الأمر، فى تسلسل العواطف والحقائق خلف تلك المشاعر.. وهل ستترك المشاعر نفس الأثر على القُراء بعد سنة؟ أو 10 سنوات؟ أو دائمًا إذا كنت محظوظًا حقا وعبرت عن المشاعر بشكل كاف وواف؟ إنه من الصعب أن أحقق ذلك لذا كنت أعمل بجد لأصل إليها، درته «العجوز والبحر» والتى منحته نوبل، تجسد صراع الإنسان مع الحياة  فى قصة سانتياجو الصياد العجوز الذى فشل فى الصيد خمسة وثمانين يوما، والذى كان سييء الحظ جدا للدرجة التى جعلت مساعده الصغير يتخلف عن الخروج معه للصيد بأمر والديه، ثم يخرج للبحر ويصطاد سمكة كبيرة جدًا بصعوبة بالغة وبعد حرب شعواء مع البحر ومع قاربه، وعندما يتمكن من ربطها فوق القارب تتقاسمها أسماك القرش ويعود هو للشاطئ صفر اليدين إلا من رأس السمكة وهيكلها العظمى، ولكنه يجد مساعده الصغير ينتظره على الشاطيء ويصمم أن يخرج مع الصياد فى اليوم التالى حتى وإن كان سييء الحظ لإيمانه أنه سيتعلم منه وسيجلب له الحظ، الرواية لم تناقش فقط صراع الإنسان مع الحياة، إنما تناقش أفكار هيمنجواى نفسه عن ذاته، «العجوز والبحر» سيرة ذاتية لهيمنجواى نفسه ولكل البشر الذين فشلوا فى أن يروا أنفسهم عظماء كما يراهم الآخرون.


لمزيد من مقالات إبراهيم داود

رابط دائم: