رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المؤثرون..التدفقات الإعلامية الحرة

ينصب حديثى فى هذا المقال على جماعة من الناس ينتشرون عبر العالم، يطلق عليهم أحياناً صناع المحتوى، وأحياناً أخرى المؤثرون على صفحات التواصل الاجتماعى. ويعرف المؤثرون على أنهم أشخاص يبنون لأنفسهم شهرة وتأثيراً باستخدام معارفهم وخبراتهم ومهاراتهم فيما يتصل بموضوع معين. ويعمل هؤلاء من خلال نشر رسائل على فترات منتظمة حول موضوع معين، باستخدام وسيلة أو أكثر من وسائل التواصل الاجتماعى، فى محاولة لخلق تأثير يجعل عددا كبيرا من الناس يتابعونهم. وكلما حصل المؤثر على عدد كبير من المتابعين، فإنه يحظى بمكانة فى عالم المؤثرين؛ ويمكن حينئذ أن يدخل عالم الإعلانات التجارية التى تدر عليه دخلاً كبيرًا. ويتزايد عدد المؤثرين على مستوى العالم؛ نتيجة التزايد المستمر فى استخدام الإنترنت واستخدام وسائل التواصل الاجتماعى، حيث يقدر عدد مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى حول العالم بنحو 4٫3 بليون نسمة. ويمكن أن نصنف المؤثرين بطرق عديدة؛ منها ما يتصل بالمجال الذى يعمل فيه المؤثر، وهى مجالات عديدة تتراوح بين المجالات الهزلية التى تلعب على الفكاهة والسخرية والتمثيل، وبين المجالات العلمية أو الإبداعية فى مجال الفنون وعالم الجمال والموضة والرياضة؛ ومنها ما يتصل بدرجة تصنيف المؤثر حسب درجة التأثير؛ حيث يتم التفرقة بين درجات ثلاث: المؤثر الكبير، والمؤثر الوسط، والمؤثر الصغير، وذلك وفقاً لعدد المتابعين الذى يتراوح بين مليون متابع (للمؤثر الكبير)، وعشرات الآلاف للمؤثر الصغير. وقد نضيف إلى هذه التصنيفات بعض الصور الفرعية للتأثير مثل المدونين، وصناع الأفلام القصيرة على اليوتيوب والمؤثرين فى مجالات متخصصة دقيقة.

ولقد آثرت أن أضع فى عنوان المقال عبارة التدفقات الحرة لكى أميز هذه التدفقات عن التدفقات الموجهة التى تنشر لأغراض سياسية أو تحريضية أو استخباراتية، فتلك التدفقات لا تدخل فى نطاق ما نقصد بالمؤثرين، بل تدخل فى نطاق الحروب الجديدة، وعمليات التأطير الفكرى والسياسى المرتبطة بها. وعلى عكس هذه الجماعات الموجهة، فإن المؤثرين ينطلقون من مبادرات فردية، ويستغلون مساحة الفضاء الالكترونى اللامتناهى (أو ما يسمى المحيط الرقمى) لكى يعبروا عن أنفسهم بطريق مبتكرة. ولاشك أن ثمة أهدافاً، ومصالح فردية تقف وراء هذه التدفقات الالكترونية، ولكن الأصل فى ظهورها لم يكن مرتبطاً بإدراك هذه الأهداف وتلك المصالح فقط، بل كان مرتبطاً بهذا الأفق الجديد المفتوح الذى يتسع لكل فرد وقول وابداع وطموح.

وعلى هذه الخلفية يمكن فهم اسهامات المؤثرين وممارساتهم على أنها تدفقات تأتى من أسفل، من القاعدة العريضة للمجتمع، وهى تعبر عن مزاج حر ومستقل. ونستطيع أن نضيف إلى هذه الخصيصة المهمة خصائص أخرى لهذا النوع من التدفق الإعلامى، فهى تكشف عن الابداع الذى يعاند ما هو مألوف، ويطمح فى أن يلد جديداً وأن يضيف شيئاً مبتكراً. وهذا هو الذى يجعل هذه التدفقات أكثر انتشاراً ومتابعة، فعلى قدر ما تحمله من إبداع، على قدر ما تحظى بتأييد ومتابعة، وعلى قدر ما تحقق من أرباح. وهى بذلك تضيف لنفسها سمة متميزة تجعلها تختلف عن التدفقات ذات الطابع الرسمى، فهى منصات غير رسمية لا ضابط لها ولا رابط، فهى مجهولة المصدر، تأتى من مظان متعددة وبعيدة أحيانا وغير متوقعة، كما أنها لا ترتبط –بالضرورة- بمنظومات تعليمية أو شهادات دراسية أو تخصصات علمية.

وتكشف هذه الخصائص عن أن ظاهرة المؤثرين ليست ظاهرة بسيطة، بل هى أكثر تعقيداً مما نتصور، وأن هذه الخصائص تكشف عن جوانب اجتماعية وثقافية مهمة، وتستدعى دلالات ومعانى يجب أن نلتفت إليها. وسوف أنفق ما تبقى من مساحة فى هذا المقال للإشارة إلى بعض هذه الدلالات والمعانى، نركز على أربعة منها. الأولى: أن هذه التدفقات تأتى من أسفل؛ وهى ولاشك تدخل فى تنافس، بل فى صراع مع التدفقات الرسمية التى تأتى من أعلى. ونحن لا نعرف على وجه اليقين أيهما أكثر تأثيراً على الناس، ولكننا نعرف على وجه شبه يقينى أن مساحة التأثير للمحتوى المصنوع من قبل المؤثرين تزداد يوماً بعد يوم، الأمر الذى يضع حدوداً على الدور الذى سوف تلعبه التدفقات الرسمية فى المستقبل، وعلى الطريقة التى تتهندس بها المحتويات الإعلامية الرسمية. وثمة دلالة ثانية ترتبط بالطبيعة الحرفية والمهنية فى الإعلام، فقد ضربت هذه التدفقات الحرفية الإعلامية التى تحاط بهالة كبيرة ودراسات وفيرة، ضربتها فى مقتل. فالذين يصنعون المحتوى هم من الأفراد العاديين الذين لم يمارسوا الاتصال عن بعد من قبل، ولم يتدربوا على حرفيته، ولا يعرفون كثيراً عن الرسالة والمحتوى والمستقبل والغرس الثقافى والتأطير الفكرى والكود الأخلاقى المهنى... وغير ذلك من المفاهيم الدقيقة فى صناعة الرسائل الاتصالية. ويطرح هذا الأمر أسئلة كثيرة حول الهالة الكبرى التى تضفى على الإعلام، وحول النفقات الهائلة التى تنفق عليه، وحول الطريقة التى تصنع بها الرسائل الاتصالية، وحول مستقبل الإعلام الرسمى برمته. أما الدلالة الثالثة ذات الأهمية الكبرى فإنها تتصل بصناعة الرأى العام داخل حدود الدولة الوطنية. ثمة هنا إلغاء للحدود، وثمة تأثيرات عديدة عابرة للدول والأقاليم، بحيث لا يستطيع أحد أن يتحكم فى حجم التدفقات وفى توجهاتها. ويثير ذلك أسئلة عديدة حول تشكل الرأى العام، ومدى اتخاذه لاتجاهات إيجابية فيما يتعلق بأمور عديدة، ودرجة التشظى والاختلاف الذى يمكن أن تعترى عملية تشكل الرأى العام، خاصة أن عمليات التشكل هذه لا تخضع لتأثير صناع المحتوى فقط ولكنها تخضع لمؤثرات عديدة قادمة فى معظمها من العالم الرقمي؛ ويطرح هذا حدوداً كبيرة على قدرة الدولة الوطنية على ضبط حدودها الرقمية وضبط توجهات الرأى العام داخلها، ناهيك عن قدرتها على معرفة حدود هذا الرأى أصلاً. وأخيراً فإن العملية برمتها تشى بأننا بصدد نظام جديد للمجتمعات. يبدو هذا النظام وكأنه يبنى على علاقات جديدة، وأبنية جديدة للقوة والتأثير، وللأدوار والمكانة؛ مما يثير السؤال الكبير حول الطريقة التى يمكن أن تدار بها المجتمعات فى المستقبل.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: