لا شك أن التحول الرقمى الذكى ضرورة من أجل المساهمة فى القضاء على «الغباء الهيكلي» الذى يصيب قطاعات متعددة فى الدول النامية وربما بعض الدول الأكثر نموا أيضا.
إن الغباء الهيكلى له مسببات عديدة ومتنوعة، مثل:
ـــ البيروقراطية.
ـــ الأداء الإدارى الضعيف والمتراخى.
ـــ العقليات الإدارية المتعفنة.
ـــ فقدان إرادة التقدم نتيجة غياب الحافز البشرى الفردى.
ـــ الخوف من تحمل المسئولية فى اتخاذ القرار نتيجة عدم توفر الحماية وعمليات التشكيك وغيرها... إلخ.
ـــ البيئة الاجتماعية المريضة للعمل والتى يغلب عليها الغيرة الوظيفية المريضة، والنميمة الإدارية، والانسياق وراء الشائعات، وسرعة الاستنتاج دون أدلة كافية، والجدل اليومى العميق.
ولابد من معالجة هذه المسببات على نحو واسع، وبطرق ووسائل مختلفة، ولا شك أن «التحول الرقمى الذكى والشامل» له أولوية من أجل المساهمة فى الإسراع بالقضاء على الغباء الهيكلى والتباطؤ.. نعم إن التحول الرقمى ليس الحل الوحيد، فهو علاج واحد مع علاجات أخرى في «روشتة» العلاج على مستوى التشريعات، والتدريب الإدارى والمالى، وتطوير العقليات وطرق التفكير، والنظر الجدى فى تفعيل الحافز البشرى القائم على التمييز حسب الكفاءة والجهد والنتائج، والقضاء على البيئة الاجتماعية المريضة للعمل.
وبهذه المناسبة، يجب تسجيل أن أحد أهم الفروق بين الدول المتقدمة والدولة المتخلفة هو الحافز الفردى والحماية التى وفرتها الدول المتقدمة للأفراد؛ خاصة أن الجودة الهيكلية للأنظمة الإدارية لا تكفى وحدها بدون العنصر البشري؛ ولن تتحول الجودة الهيكلية إلى «ذكاء هيكلي» دون الممارسات الفردية الذكية والتى لديها الحافز المستمر والدائم، كما تتمتع بالثقة وعدم الخوف.
وكل هذا يقودنا إلى الحوكمة بمعناها الحقيقى، كما يقودنا إلى معرفة أهمية «التحول الرقمى الذكى والشامل» كجزء من حوكمة إدارة الدول بشكل عام، فالحوكمة الشاملة تقضى بطبيعتها على الغباء الهيكلى، ولا يمكن تصور الحوكمة بدون العمليات الرقمية وبدون الأفراد الأكفاء الذين يقومون بهذه العمليات.
ومن هنا فإن التحول الرقمى لن يسهم فى الإسراع بالتقدم الاقتصادى فقط، وإنما كذلك سوف يسهم فى تقليل «الغباء الهيكلي» العام، وازدياد قوة مؤسسات الدولة، ليس فقط على مستوى الأداء، ولكن أيضا على مستوى التمتع بالثقة فى أعمالها وكوادرها؛ حيث إن العمليات الإلكترونية تتمتع بالموثوقية لدخول أطراف من جهات خارجية عديدة فيها قبل الصرف، ولكونها تجعل العمليات المالية مرئية لكل الأطراف المختصة فى الدولة.
وهذه مسألة بالغة الأهمية، فالثقة فى مؤسسات الدولة وفى قياداتها محور بالغ الأهمية فى قوة الدولة. ومصداق ذلك أن أعداء كل دولة يستهدفون بشكل أساسى زعزعة الثقة بمؤسسات الدولة واستهداف قياداتها بالشائعات واختلاق الأخبار الزائفة عنها. والدول الذكية لديها قدرة على إدراك ذلك والتعامل معه بأساليب متعددة؛ وتستطيع أن تحمى مؤسساتها وكوادرها من كل محاولات زعزعة الثقة؛ خاصة تلك التى تملك اقتصادا رقميا وتخضع عملياتها المالية للأنظمة الإلكترونية والمراقبة قبل الصرف وبعده؛ مما يؤكد سلامة التعاملات المالية؛ حيث إن العمليات الاقتصادية الرقمية جزء من تحقيق الشفافية والدقة والثقة.
ومن ثم غلق منفذ مهم أمام أعداء الوطن المشككين من الخارج، وأيضا أمام الطابور الخامس الداخلى الذى يزعم أنه ابن الوطن بينما يعمل من أجل زعزعة استقراره والتشكيك فى مؤسساته.
لسنا بحاجة إلى إعادة التأكيد أن التكنولوجيا الذكية الرقمية ليست من قبيل الكماليات أو الأمور الرفاهية فى إدارة الدول، بل صارت من أولويات العصر فى كل المجالات وفى كل أنوع المعاملات والخدمات. ولعل هذا ما دفعنا أثناء المشاركة فى مؤتمر ومعرض الاقتصاد الرقمي (سيملس الشرق الأوسط 2022) بدولة الإمارات، إلى تأكيد ضرورة شمول واستيعاب الثورة الرقمية لكافة المعاملات فى كل الميادين للمساهمة فى القضاء على «الغباء الهيكلي».
وبشكل عام، لا يمكن أن نخادع أنفسنا وننفى ما تشهده أكثر بلاد المنطقة العربية من «غباء هيكلي» نتيجة العوامل السابق الإشارة إليها أعلاه، بالإضافة إلى القصور المتفاوت نسبيا فى الجوانب المعرفية، والتحول الرقمى، واستخدام التطبيقات الذكية، ومؤشرات الابتكار، بالمقارنة بالدول المتقدمة أو الصاعدة.
وفى الوقت نفسه لا يمكن إنكار أن هناك دولا عربية ناجحة رقميا وتبدو كنماذج رائدة فى التحول الرقمى، مثل: جمهورية مصر العربية كما يتجلى فى مبادرتها الرقمية ورؤيتها الرقمية التنموية الشاملة، والإمارات العربية المتحدة فى تبنيها للاقتصاد الرقمى الذكى والحوكمة الرقمية، ومبادرة التحول الرقمى فى رؤية المملكة العربية السعودية 2030م.
وعلى مستوى المؤسسات، فهناك نماذج كثيرة فى مصر والإمارات والسعودية وبعض الدول العربية الأخرى، لها الريادة فى التحول الرقمى فى المنطقة العربية، ولا شك أن من بينها جامعة القاهرة التى طبقت الشمول المالى الرقمى بصرامة على كل الجهات التابعة لها منذ وقت مبكر مع بداية عام 2018، بالتوازى مع الدورة المستندية إعمالا للقوانين واللوائح الحاكمة، مع تقليل المركزية الإدارية لتحقيق أكبر قدر من التدفق فى العمليات طبقا لقواعد الحوكمة.
------------------------------
> أستاذ فلسفة الدين ــ رئيس جامعة القاهرة ــ عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
لمزيد من مقالات د. محمد الخشت رابط دائم: