منذ عام أهدانى الصديق آصف بيات كتابا، قام بتحريره مع زميلة له، بعنوان الشرق الأوسط المعولم، ومنذ هذا التاريخ وأنا أقرأ فصول الكتاب على مكث، وأترقب الوقت الذى تأتينى فيه الرغبة للكتابة عنه. ولقد جاءت هذه الرغبة بعد أن هاتفنى عدد من معدى البرامج لكى أتحدث عما جرى للمجتمع المصرى والأسرة المصرية من تفكك. ولقد رفضت هذه الأحاديث جميعاً نافياً أن يكون حال المجتمع المصرى هو هذا الحال الذى تصوره أحاديثنا. وفى الوقت الذى كنت أرفض فيه هذه الطلبات الإعلامية، كنت أطل على صفحة غلاف هذا الكتاب حيث تتصدره صورة محمد صلاح بهذه الطلة السمحة والابتسامة العريضة. حيئذ سألت نفسى ، وقد مددت يدى لأقلب صفحات الكتاب وعناوين فصوله من جديد، لماذا كل هذا التجنى على المجتمع المصرى من جانب الإعلاميين وشطار الكلام ؛ وهل يجب أن نجلد أنفسنا بهذه الطريقة، فى الوقت الذى نجد باحثين، جلهم من خارج مصر، يتحدثون عن المجتمع المصرى حديثاً يشرح القلب، ويجعلنا ننظر إلى المجتمع المصرى بثقة وأمل ،تعكسها ابتسامة محمد صلاح وهو يطل علينا من فوق غلاف الكتاب.
رغم أن الكتاب عن مجتمعات الشرق الأوسط، إلا أنه يحتوى على كثير من الموضوعات عن مصر، ولذلك فقد آثرت أن يكون حديثى حول الكتاب حديثا انتقائيا للموضوعات التى وردت عن مصر. دعونا أولاً نلقى نظرة سريعة عن الكتاب. يؤكد المحرران فى مقدمة الكتاب أهمية العلاقات المتبادلة بين المناطق والدول والأقاليم، حيث تتطور كل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، والعلمية والفنية عبر مجموعة معقدة من التدفقات والتجديدات وأشكال التفاعل والتثاقف والتبادل داخل المناطق وفى علاقتها بالعالم المحيط. وعلى هذه الخلفية فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التى يتناولها الكتاب لم تكن أبدا معزولة، كما لم تكن شعوبا لها تاريخ استثنائى يقع خارج المنظومة الدولية. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نتحدث عنها بوصفها مجتمعات يؤثر فيها العالم المتقدم فقط، ولكنها تتفاعل مع هذا العالم، وتقدم إسهامات تصنع لها اسما على المستوى الكونى، إذ كانت مهدا لحضارات ومعارف وبنت امبراطوريات حكمت العالم قبل أن يلج إلى العولمة المعاصرة، وتبقى مصر دائما فى قلب هذا التفاعل حاملة لاسم بارز ومكانة عالية. لم تكن مصر بعيدة قط عن الإسهامات الحضارية فى بناء التاريخ الإنسانى، ذلك أن تاريخ العالم لا يكتب إلا بالإشارة إلى البدايات المصرية، بجانب البدايات الحضارية الكبرى . ولقد ظل هذا الدور المصرى الحضارى فى الحقبة الحديثة والمعاصرة،حيث استطاعت أن تخلق عولمتها الخاصة عبر تدفقات سياسية وثقافية واجتماعية، وأن تترك تأثيرا كبيرا على تشكل العالم . ومرورا على صفحات الكتاب الذى بين أيدينا نستطيع أن نقف ثلاث وقفات تبرز هذا الدور.
فى الوقفة الأولى نفتح فصلا متميزا عن عبد الناصر، تحدث عنه طفلاً وشابا وزعيما لحركة الضباط الأحرار، وعن تفاعلات نظامه السياسى مع العالم، ومحاولات الغرب إدخال مصر فى حلبة الصراع بين الشرق والغرب، والذى انتهى بالعدوان الثلاثى على مصر عام 1956. لقد كان هذا العدوان بداية لصعود مصر عالمياً، واحتلالها لمكانة دولية مرموقة، حيث تكاثف دورها فى حركة التحرر الوطنى فى العالم، وتأسيس حركة عدم الانحياز. يشعر القارئ وهو ينتقل عبر صفحات الحديث عن عبدالناصر ونظامه، وكأنه يصعد مع مصر درج الحضور المعولم والتأثير فى حركة التاريخ العالمية. وفى الوقفة الثانية يذهب بنا الكتاب إلى عالم الرياضة فيرد فصل عن محمد صلاح. يتتبع نشأته ويقارن بينه وبين محمد على كلاى، حيث صعد كلاهما من أعماق المجتمع إلى سدة الشهرة العالمية. ويحلل الكاتب بشكل جذاب الحركات الجسدية لمحمد صلاح ويصوره وهو يفتح ذراعيه وكأنه يحضن الأفق، ويعرض لحدث رفضه هدية كبيرة بعد أن ساهم فى دخول مصر إلى كأس العالم بعد الانتصار على الكونغو فى 2017، وينتهى إلى الشهرة العالمية لمحمد صلاح والتفاف الجماهير الأوروبية حوله. ولكن الأجمل فى كل هذا التحليل هو هذه المقارنة المجازية بين صعود محمد صلاح إلى سدة الشهرة العالمية ومصر المعاصرة التى تحاول بعد ثورتين أن تستعيد دورها العالمي. ويتحدث الكاتب عن مشروع توسعة قناة السويس، والشعار الذى صاحبه بأنه هدية مصر إلى العالم، وهكذا يصور صعود صلاح إلى المستوى العالمى مفهوما فى سياق ما يحدث لمصر من صعود، وكأنه يرمز إلى ولوج مصر مرة أخرى إلى سدة التفاعل الدولى . أما الوقفة الثالثة فقد كانت حول القطن المصرى، والمصنوعات المصرية القطنية التى تحمل شارة صنع فى مصر. أشار هذا الفصل إلى الحوارات الدائرة حول صناعة الأنسجة القطنية المصدرة، وأوضح إلى أى مدى ارتبط القطن بالأرض المصرية والفلاحين المصريين إلى درجة أن أطلق عليه ذهب مصر الأبيض. وعلى خلفية تاريخية لعملية إنتاج القطن فى مصر، تتكشف رحلة القطن ليتحول من مادة خام إلى نسيج يستخدم فى شتى أنحاء العالم، ويتخذ لاسمه شهرة لا يمكن أن ينافسه فيها أحد. ولكن ولوج هذه الصناعة إلى عصر العولمة ودخول أطراف أخرى غير مصرية فيها، لا يعنى أبداً أن عمليات إنتاج القطن وغزله وتصديره لم تكن عمليات مصرية لها طابع وطني. فالعولمة تخلق تأثيرات قوية على الثقافة والتفاعلات الوطنية، ولكن تبقى هذه الثقافة وهذه التفاعلات هى الأصل فى خلق التواصل والتقاطع عبر الحدود. متمثلاً هذه المرة فى هذا المحصول الذى التف حوله المصريون طيلة قرنين من الزمان.
وثمة موضوعات أخرى عديدة لا يتسع المكان لسردها ومن أهمها الفصل الذى جاء عن ميدان التحرير؛ الذى تحول عبر التفاعلات التى شهدها إلى ميدان يدخل تاريخ العولمة من أوسع الأبواب. ومن هذه الموضوعات أيضا الإشارات الكثيرة إلى الموسيقى والفنون والطعام، والتى لا يمكن تناولها دون أن يكون لمصر مكان فيها. ولكن دعونى أختم بما بدأت به من تذكير نفسى وأبناء وطنى بعدم جدوى ما نحن فيه من جلد أنفسنا، وتضخيم أخطائنا، وبث النقد اللاذع الذى لا يرحم للمجتمع، وأن علينا أن نثق بأنفسنا وبوطننا، وأن نعرف جيداً أن مصر هى بلد صناعة الحضارة وصناعة التاريخ، وأنها إذا كانت قد صنعتهما فى الماضى فإنها لا تزال تصنعهما فى الحاضر.
لمزيد من مقالات د. أحمد زايد رابط دائم: