أقل ما توصف به الموازنة الجديدة أنها استثنائية، ليس لأنها تجابه تحديات دولية لها تداعياتها على العالم كله فحسب، بل لكونها ماضية فى تنفيذ الخطة الطموح بتحقيق مستوى مرتفع من النمو، مع تقليص عجز الموازنة وخفض الديون بمعدلات كبيرة، وقد يظن البعض أن تحقيق هذين الهدفين سيكون على حساب تقليص الخدمات أو النفقات والأجور والرواتب والمعاشات ومشروعات التكافل ومستوى الإنفاق على الصحة والتعليم، لكن الموازنة تؤكد أن جميع هذه البنود لن تُمس، بل ستزيد مخصصاتها بمعدلات مناسبة، وهذا أهم جوانبها الاستثنائية.
وعندما نعود للأرقام التى تؤكد تلك الحالة الاستثنائية، سنجد أن مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية زادت بمقدار 356 مليار جنيه، وأن الأجور زادت بـ 43 مليار جنيه، لتصل إلى 400 مليار جنيه، لتحسين دخول 4٫5 مليون موظف من العاملين بالحكومة، تنفيذا لتوجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بتخصيص حزمة من الحوافز لرفع الرواتب بقيمة 26 مليار جنيه، تتضمن زيادة العلاوة الدورية والخاصة والحافز الإضافى، وتبكير الصرف إلى شهر أبريل بدلا من يوليو بتكلفة إضافية تبلغ 7 مليارات جنيه عن الشهور الثلاثة، بالإضافة إلى تخصيص 90 مليار جنيه للسلع التموينية و191 مليار جنيه لصناديق المعاشات، أما تكافل وكرامة، والضمان الاجتماعى فقد زادت مخصصاتهما 22 مليار جنيه، لتستفيد منها 4 ملايين أسرة.
هذه المخصصات الكبيرة لدعم الأجور ومعها المعاشات، إلى جانب الخدمات الاجتماعية تؤكد أن رؤية الحكومة تجمع بين الارتقاء بمستوى المعيشة للفئات المتوسطة والمحدودة الدخل، والإصلاح الاقتصادى، ودفع الاستثمارات إلى قطاعات تنموية، على رأسها الصناعة والزراعة.
الموازنة بنيت على دراسات دقيقة وشاملة للمؤثرات الدولية وانعكاساتها، ورصدت تداعيات جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، وما يترتب على تلك الأوضاع الدولية المعقدة، التى أدت إلى ارتفاعات كبيرة فى أسعار الطاقة، وأزمات فى سلاسل توريد الحبوب وعدد من السلع، وتدنى معدلات النمو فى أوروبا، وارتفاع معدلات التضخم.
وكنت أتابع تلك التطورات الخطيرة، التى اضطرت الكثير من البلدان المتقدمة إلى إجراءات تقشف، وشهدت لأول مرة منذ الحرب العالمية تقنين توزيع السلع المتأثرة بالحرب الأوكرانية، ومنها الزيت والدقيق والسكر وسلع أخرى، وشجعت ألمانيا على ركوب المواصلات العامة بدلا من السيارات الخاصة، تحسبا لأزمة طاقة غير مسبوقة التوقعات، لكن عندما اطلعت على الدراسات المتعلقة بالموازنة المصرية، وجدت أنها جاءت برؤية شاملة ودقيقة للأوضاع الدولية، ووضعت الخطط المناسبة للارتقاء بالمنتج المصرى، وجعلت من الأزمة فرصة، لأن نزيد من الاعتماد على قدراتنا الوطنية، حيث رفعنا معدل إنتاج القمح لقفزة كبيرة، يمكن أن تتلوها قفزات، ونتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتى من السلع الإستراتيجية، ونقلل التأثر بالأزمات العالمية، ونعتمد على بناء وتأهيل الإنسان المصرى وزيادة فرص العمل، وتوطين الصناعة الوطنية، والنهوض بقطاعات صناعية مهمة مثل التكنولوجيا والاتصالات، وتعميق التصنيع لزيادة القيمة المضافة، وتقليص فاتورة الاستيراد بنسبة لا تقل عن 10%، مما يحقق هدفين، الأول توفير فرص عمل، والثانى توفير العملات الصعبة التى يتم إنفاقها على الواردات.
كان للإصلاح الهيكلى الذى تبناه الرئيس عبدالفتاح السيسى مبكرا دوره المهم فى قدرة الاقتصاد المصرى على امتصاص الأزمات العالمية، والقدرة على التكيف مع المستجدات، ودعم القدرة التنافسية للاقتصاد المصرى، من خلال ركائز تقوم على التحول الرقمى وتحديث الإدارة، وإصلاح التشوهات الاقتصادية، مما أسفر عن تحقيق معدل نمو بلغ حوالى 5٫6% فى عام 2021، فى وقت لم تحقق فيه الاقتصادات الكبرى إلا معدلات محدودة للغاية، وبعضها بالسلب، وهذا النمو الذى تحقق فى ظل جائحة وأزمة اقتصادية عالمية يبشر بقدرتنا على تحقيق معدلات نمو أفضل فى السنوات القادمة، وتحقق هذا النمو رغم أن السياحة تأثرت بالإغلاق إلى حد كبير، وكذلك تحويلات المصريين بالخارج، وانكماش التجارة العالمية بتأثيره السلبى على عائدات قناة السويس، وتحمل قطاع الصحة عبئا كبيرا خلال السنوات الماضية، كما كان لنظام التعليم القدرة على التكيف والاعتماد على التعليم عن بعد، فى خطوة تحسب للاستعداد المبكر بإدخال التابلت، والتواصل المستمر بين الطلاب والمعلمين عن بعد.
هناك الكثير والكثير مما تحمله الموازنة الجديدة من دلالات، بفضل رؤية مبكرة ودراسات مستفيضة، وخطوات استباقية، جعلتنا لا نشعر بعمق الأزمة الاقتصادية العالمية، وما تعانيه بلدان متقدمة، لكن أهم ما لفت نظرى أن الموازنة وضعت مخصصات التعليم والصحة والبحث العلمى فى مقدمة الأولويات، حيث خصصت 310 مليارات جنيه للصحة و476٫3 مليار جنيه للتعليم الجامعى وقبل الجامعى، و79٫3 مليار جنيه للبحث العلمى، وفق ما جاء بالدستور، وتلك خطوة كبيرة ومبشرة نحو بناء حقيقى يستثمر فى الإنسان المصرى، ويرتقى بمستوى تعليمه وصحته، وجعل البحث العلمى أحد أعمدة التقدم والبناء، وليس مجرد هياكل هامشية وبعيدة عن حقول الإنتاج، لأن تحقيق الترابط بين البحوث العلمية والاختراعات بالصناعات المصرية وتقنيات الزراعة الحديثة من شأنه أن يحقق لنا الكثير، لأن العقل المصرى قادر على الاستيعاب السريع لمتطلبات وتقنيات العصر، وقادر على الإبداع والإثراء، ويشهد بذلك تاريخنا.
إن التحديات الاقتصادية التى نواجهها، والأزمات فى الطاقة والقمح وعدد من السلع الغذائية تتطلب منا مساندة خطة الموازنة العامة للدولة، وأن نسعى إلى تحقيق أهدافها، كل فى مجاله، من التعليم والصحة إلى الإنتاج الصناعى والزراعى وباقى القطاعات الإنتاجية والخدمية، بالعمل على تطوير الأداء، والارتقاء بالمنتج، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتى كلما أمكن، مع ترشيد الاستهلاك، وعدم التأثر بأخبار ارتفاع سعر سلعة ما بالخارج، فيهرع البعض إلى تخزينها، فيخلقون أزمة بلا مبرر، فالموازنة راعت توفير جميع المتطلبات الأساسية، وحددت البدائل، وعلينا الحذر من الشائعات التى تسعى إلى إثارة الفوضى لتسبب الأزمات، وبالتالى يمكننا التغلب على أى أزمة عن طريق العمل الجاد، وخفض الاستهلاك، والثقة فى قدراتنا.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت رابط دائم: