رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

‎حزن مثل أسواق العراق

 رحل الشاعر العراقى الكبير مظفر النواب وأخذ معه الأحلام التى سجن وشرد بسببها، الأحلام التى لم يتحقق شيء منها، أرخ بقصائده للهزائم الكبيرة وللأحزان الصغيرة، كانت قصائده تهرب بين العواصم ونجلس إليها مبهورين بأداء صاحبها وصدقه وعذوبته وحدته وحزنه، ونتساءل : لماذا يتم تجاهل تجربته عندما يتحدث النقاد عن الشعر العربى الحديث؟، ولا نجد إجابة، هل بسبب هجائياته فى الحكام العرب، هل لأنه يكتب العامية العراقية أيضا؟، هل بسبب نجوميته التى أربكت السلطات فى كل مكان؟، هل لأنه كان يتغنى بها ويؤمن بحماس الجمهور فى القاعات الكبيرة؟ كان شاعرا حداثيا لا شك فى ذلك، خرج بالشعر من صالونات ومقاهى المثقفين إلى الشارع العربى.

‎ لقب بشاعر القدس بسبب قصيدته الشهيرة «القدس عروس عروبتكم»، والتى تم اختزاله فيها كأنه لم يكتب غيرها، وحاصرته المؤسسة النقدية العربية الرسمية بسببها، تنتمى قصيدته إلى قصيدة الرواد التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، احتكم إلى طفولته وقناعاته التقدمية المناهضة للاستبداد والاستعمار، لم ينتظر عائدا من شعره، كان يعبر عن أحزان وأشواق العراقيين والعرب، عاش مدافعا عن عروبته، يقول «ماذا سيحصل لو تحولنا إلى بلاد؟، أنا بغداد وأنت القدس، يميل رأسى على كتفك قليلا، فتزهر دمشق ويستقيم العالم»، «بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة .. ملعون من يتبعها»، يأتى الشعر عنده من مناطق غير مأهولة للشعراء، بساطة مربكة فى أحيان كثيرة، محملة بحيل طفولية وأصوات بعيدة، «سيدتى .. أيقتلك البرد؟، أنا يقتلنى نصف الدفء ونصف الموقف أكثر».

‎ قصيدة النواب ونزار قبانى ومحمود درويش الفصحى احتلت فضاء الغضب والرفض حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، وتراجعت بسبب هزيمة المشروع القومى بغزو صدام حسين للكويت ثم مجىء القوات الأمريكية بنفسها فى المنطقة، لم تعد هذه القصيدة قادرة على صد العدوان، ولم تعد البلاغة القديمة مؤهلة للتأريخ للهزائم المتلاحقة على المستويين العام والخاص، ولكن ظل صوت مظفر يطل بين الحين والآخر، ولكنه أكثر حزنا «متعب منى .. ولا أقوى على حملى»، كل شىء مستريح هادئ، وقريبا، أنت أيضا تستريح»، ينتمى مظفر عبد المجيد النواب إلى أسرة النواب الثرية المهتمة بالأدب والفن والمراسم الحسينية، قد هاجرت إلى العراق من الهند، إذ كانوا من أمراء الهند، وهم فى الأساس عائلة عراقية تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، هربت للهند إبان ثورات العلويين، ومطاردتهم من قبل سلطات الخلافة العباسية، إلتحق مظفر (مواليد 1934 فى الكرخ قرب بغداد) بالحزب الشيوعى العراقى وهو لا يزال على مقاعد دراسة كلية الآداب فى جامعة بغداد، تعرض للاعتقال والتعذيب على يد الحكومة الهاشمية, وبعد الثورة العراقية عام 1958 التى أطاحت بالنظام الملكى، عين  مفتشًا فى وزارة التربية والتعليم, سنة 1963، اضطر لمغادرة العراق إلى إيران المجاورة «الأهواز بالتحديد وعن طريق البصرة»، بعد اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام العراقى الحاكم، تم اعتقاله وتعذيبه من قبل السافاك الإيرانى وهو جهاز مخابرات نظام الشاه محمد رضا بهلوى، وهو فى طريقه إلى روسيا، قبل إعادته قسرا إلى العراق، أصدرت محكمة عراقية حكماً عليه بالإعدام بسبب إحدى قصائده، وتم تخفيفه فيما بعد إلى السجن المؤبد، فى سجنه الصحراوى «نقرة السلمان» قرب الحدود السعودية العراقية، نُقل بعد ذلك إلى سجن الحلة فى جنوب بغداد، استطاع مع سجناء سياسيين برفقته أن يحفروا نفقاً من زنزاناتهم يؤدى إلى خارج السجن، ولما نجحت الخطة، وهرب من السجن، توّجه للأحواز فى الجنوب العراقى، ومكث سنة حتى أعفى عنهم رسمياً عام 1969، خرج من العراق بحجة مراجعة ديوان له فى بيروت، ولم يعد إلى العراق إلا عام 2011، أى بعد ثمانى سنوات من سقوط نظام صدام، عاش منفيا فى بلاد الله فى أوروبا والشرق الأوسط، ورحل مطلع الأسبوع الماضى فى الشارقة، وحملت الطائرة الرئاسية جثمانه ونعاه رئيس الدولة وشارك رئيس الوزراء فى جنازته، حزن العراقيون عليه لأنه الرجل الذى عبر عن أفراحهم وأحزانهم فى شعره الشعبى، وهو الشعر الذى تطور على يديه، لأنه استفاد من آليات قصيدة الفصحى الحديثة، تعلقنا مثل العراقيين بأغنياته العذب «البنفسج، مرينا بيكم حمد، حن وأنا حن، مو حزن لكن حزين» وعشرات غيرها كان يرسلها لنا أصدقاؤنا من العراق والخليج فى الثمانينيات، كتب خمريات رائعة هوجم بسببها من المتشددين، كأنه أول من يكتبها، وأعتقد أن قصيدته «تعلل فالهوى علل وصادف أنه ثمل» من أجمل القصائد فنيا فى الشعر العربى الحديث، رحمة الله على الشاعر العربى الكبير الذى قال فى نهاية الرحلة «مرة أخرى على شباكنا تبكى.. ولا شيء سوى الريح.. وحبات من الثلج على القلب.. وحزن مثل أسواق العراق.. مرة أخرى أمد القلب.. بالقرب من النهر زقاق.. مرة أخرى أُحنّى نصف أقدام الكوابيس بقلبى.. وأضىء الشمع وحدى، وأوافيهم على بعد وما عدنا رفاق»، والذى قال «وقنعت بأن يكون نصيبى فى الدنيا كنصيب الطير، ولكن سبحانك.. ، كل الطيور لها أوطان، وتعود إليها، وأنا .. مازلت أطير!».


لمزيد من مقالات إبراهيم داود

رابط دائم: