إذا ما جاء الطفل الذكر ضمن سلسلة من الابناء وكان فى اسرة فقيرة فى الريف أو الحضر، فلابد من توافر شروط بيئية معينة تشجع اسرته على الدفع به فى سوق العمل مبكرا. وهى شروط تتوافر بشدة فى العديد من الدول ذات السمة الزراعية التى لم تستكمل بعد تحولها الصناعى الذى من المفروض أن يخرجها من حالة التخلف العام. وباستخدام عبارة التخلف العام نعنى به انتشار الامية وتراجع النظم الصحية وانتشار البطالة واعتماد الدولة على توفير احتياجات شعبها من خارجها، اى عدم قدرة شعبها على انتاج احتياجاته الاساسية.
ولكن هذه الاسباب العامة تخلق ظروفا بيئية محلية تساعد على عمل الاطفال بحيث يتحولون الى مصدر للرزق الذى يسهم فى زيادة دخل الاسرة خاصة بعد ان يكون الوالد تقدم فى السن كما هو فى الريف او استسهل حياة التعطل وبدأ يعتمد على عمل اولاده وفى أحيان على زوجته. وهى حالات نشاهدها كثيرا أو نسمع عنها فى الحضر الفقير فى عواصمنا. هذه الاسباب العامة لا تنطبق على الأفراد. ففى الدول النامية نجد علماء ومثقفين وفنانين قد يصلون الى العالمية ولكنهم بالمقارنة العددية قلة فى مجتمعاتهم. وكم منهم تم استنزافهم من الدول المتقدمة بسبب نبوغهم وكم منهم هاجروا تلقائيا وإراديا للعمل فى الخارج بحثا عن الرواتب الاعلى. هذه حقائق موجودة فى بلداننا ولابد من الاعتراف بها ومواجهتها بالتطور اللازم.
فما هى هذه الظروف البيئية التى تتواجد فى مجتمعاتنا المحلية والتى لا تتوافر فى المجتمعات الاكثر تقدما أو المجتمعات المتقدمة صناعيا. فى البداية مجتمعاتنا تسودها القيم الزراعية بالرغم من تواجد بؤر صناعية بها. الا انها بؤر قليلة ومتفرقة ولا تستطيع حتى بتجمعها فرض قيمها الصناعية الحديثة على المجتمع. وقد وُجدت فى بلادنا مشروعات صناعية فى العقد الستينى تسعى الى إحداث نقلة قيمية متقدمة بعض الشىء ولكنها اصطدمت بعد سنوات قليلة بسياسات انفتاحية هزمتها بسرعة وعاد المجتمع المصرى الى ما كان عليه رغم المحاولات التى تم السعى بها، إلا انها كانت بطيئة ولم تترك اثرا يعقل. ولكن بعد الـ30 من يونيو بدأت سياسة تصنيع ولكن فى إطار عالمى جديد لا يشجع على الاسراع وإنما يراقب بحذر التطورات الداخلية خاصة الاقتصادية.
ولذلك لا نستطيع ادعاء اننا تغلبنا على الفقر أو على الامية لأن الدولة كانت تواجه بالتغيرات الداخلية التى زادت من التعداد العام الذى ظهر تحديدا فى الريف والحضر الفقير. ولا يمكن إنكار أن تقدما حدث ويحدث ولكنه تقدم يتحقق فى إطار دولة نامية تملك القليل لمواجهة الكثير من المشاكل الاجتماعية المتنوعة. ويأتى الظرف الثانى الذى يجسده الفقر الاسرى فى البلاد. فالاسرة لا يمكن ان تلقى بأبنائها فى سوق العمل الا إذا كانت فى احتياج لهذا الدخل البسيط الذى سيأتى به الطفل. وهى ظاهرة يمكن رصدها بسهولة فى مجتمعنا. ففى الاحياء الغنية المتيسرة لا نجد ابدا اطفالا يعملون وإنما نجدهم فى المدارس الموجودة فى احيائهم. ولذا يرتبط عمل الاطفال بالفقر الاسري، وحتى بكثرة الإنجاب لأن الاطفال فى هذه الحالة يتحولون الى مصدر رزق. ويأتى الطرف الثالث بانتشار القطاع الصغير غير المنظم والعامل خارج سيطرة الدولة وقوانينها والناجح فى التهرب من أجهزتها الرقابية. فهذا القطاع الصغير يملك الحركة التى تساعده على التهرب من القانون ومن رقابة الدولة. أتذكر انه فى العقد الستينى كنت فى زيارة عمل فى منطقة شبرا الخيمة وزرت مصانع الزجاج الصغيرة وكانت تشغل اطفالا على الرغم من ان القانون لم يكن يجيز توظيف العاملين الذين يقل اعمارهم عن 12 عاما. اثناء حديثى مع العاملين كنت اسأل كل واحد على حده عندك كام سنة؟ فكان رد الجميع 13سنة، فطبعا كان مفهوما ان سنه اقل من السن القانونية إلا انه كان يخفى الحقيقة حتى لا يصيب رب العمل بالضرر القانوني. ولا اتصور ان الامور قد تغيرت كثيرا للأفضل بل اتصور انها لا تزال قائمة. خاصة مع علم الدولة، وعلمنا جميعا، بانتشار القطاع الصغير غير المنظم وتمثيله لنسبة عالية من القطاع الاقتصادى المصري. وفى البلاد المتقدمة اقتصاديا يوجد القطاع الصغير. وهو يشكل نسبة عالية من الاقتصاد الكلى للدولة ولكنه لا يشغل اطفالا تقل سنهم عن السن القانونية التى حددتها الدولة لأنه اولا تحت الرقابة المنظمة كما انه قطاع يدير عمله بتقنية جزئية لا يمكن لأطفال التعامل معها. وهو ما نلاحظه فى بلادنا وتحديدا فى الاعمال الصغيرة والمتوسطة التى تنشأ على القروض وتستخدم جانبا من التقنية التى تساعدها على الانتاج. فالاطفال لا يستطيعون العمل على الآلة الكبيرة وانما يتعاملون مع الآلة غير المتقدمة.
ثم تأتى المدرسة والتعليم. اتذكر ان الدولة المصرية كانت تفرض غرامات مالية على أولياء الامور إذا لم يقيدوا ابناءهم، ذكورا أو إناثا، فى المدارس. ولا اتصور ان هذه الغرامة كانت ستقضى على الامية وتساعد على زيادة التعليم فى البلاد، ولكنى اتصور انها كانت تشير إلى جدية الدولة فى مجال التعليم خاصة تعليم الابناء. وكأننا للأسف تعودنا على ان الدولة لا تستمر فى اتباع سياسات توصلنا لنتائج ملموسة. وفى هذا الصدد مادامت الدولة لم تتمسك بسياساتها فلماذا يتمسك بها اناس عادية فقيرة. لذلك تسيبت الأمور وكذلك تسيب الناس ولم تعد توجد الغرامة ولم يعد الناس تهتم بقيد ابنائها فى المدارس. ولكننا انتظمنا فى تحديد ميزانية ثابتة لمناهضة الامية كما انتظمنا فى ايجاد مؤسسة متخصصة فى محو الامية بغض النظر عن النتائج المرجوة منها وبغض النظر عن المسئولين المتخصصين العاملين بها. والآن إذا اردنا فرض العناية والرقابة على اطفالنا فلابد من معالجة هذه الظروف المحيطة بعمل الاطفال. ويجب ألا نتراجع فى سياساتنا أو نخجل من مشاكلنا. فنحن مجتمع ككل المجتمعات النامية. نعيش مع خطايانا ومع مكاسبنا. وفى كل الاحوال لابد من مواجهة قضايانا بكل شجاعة.
لمزيد من مقالات أمينة شفيق رابط دائم: