يحتضن الأهرام بمبناه وصفحاته الكثير من الذكريات لعديد من قامات الصحافة المصرية ومن بينهم الكاتبان الكبيران صلاح منتصر وعزت السعدنى اللذان رحلا عنا منذ أيام، لكنهما تركا لنا علامات بارزة على طريق العمل الصحفى لن تمحوها الأيام، منها مواقف وذكريات وكتابات وتلاميذ وتقاليد عمل وسلوك ستظل تحملها أجيال من صحفيينا الذين عايشوهما.
فالكاتب الكبير صلاح منتصر ظل يكتب عموده اليومى «مجرد رأى» طوال فترات مرضه وعندما يتأخر عموده فى أيامه الصعبة الأخيرة نعرف دون إخطار أنه فى العناية المركزة فنسرع للاتصال بمرافقيه لنطمئن على صحته، وكأن الكتابة علامة الحياة لدى هذا الكاتب الكبير الذى تعلمنا منه فنون الصحافة ونعرف كيف ننتقد ونكشف الحقائق دون تجريح شخصى، وبرغبة صادقة فى تصويب الأخطاء يسعد بها المسئول، فلا يشكو من نقد بل يمدنا بمعلومات، ويجرى معنا حوارات فالنقد والاختلاف من أدوار الصحافة، لكن بلا تجريح ولا رغبة فى التشهير والإساءة، وكان سلوكه مثل كتاباته يتسم بالرحابة وحب المعرفة والتقدير المتبادل، ومهما كانت انشغالاته أو مشاكله فالابتسامة الهادئة لا تفارقه وكان عموده اليومى «مجرد رأى» رحلة بطول مصر وعرضها مليئا بشخوص أبنائها ومشكلاتهم وأحلامهم وإطلالة على القضايا الإقليمية والدولية، فلا نجد حدثا مهما إلا وكان له رأى موضوعى بعيدا عن المجاملات ولا الإساءات، إنها الصحافة الراقية التى جسدها كاتبنا الكبير صلاح منتصر طوال مسيرته الصحفية الطويلة التى أمضى فى رحابها ما يزيد على ستة عقود من العمل اليومى ورحل والجميع يحبونه ويذكرون مساندته واحتضانه للصحفيين الشباب وبابه المفتوح دوماَ حتى وهو يرأس تحرير مجلة أكتوبر أو أثناء عضويته بمجلس الشورى أو المجلس الأعلى للصحافة أو رئاسة مجلس دار المعارف، فقد ظل يفخر دوماً بلقب صحفى وكاتب، ولم ينقطع عن مهنته التى أحبها وأحبته.
مهارة الأستاذ الكبير صلاح منتصر فى كتابة العمود الصحفى الرشيق الذى يسابق الأحداث ويطرق كل ماهو جديد ويرصد ما يجرى فى أنحاء مصر والعالم جعلته جديرا بحصد العديد من الجوائز كان آخرها جائزة منتدى الإعلام العربى فى دبى 2018 للمقال الصحفى، والأهم من كل ذلك أنه حاز تقدير القراء فى مصر والوطن العربى، فكان ديواناً للوقائع والقضايا بمختلف أنواعها من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية ورياضية ونفسية وصحية فيما يجسده فى كتاباته عن الواقع المصرى ومحيطه العربى والدولى.
قامة أخرى فارقتنا صاحب تحقيق السبت الشهير الذى كان ينتظره القراء وحقق نجاحا باهرا لأن من يكتبه هو الموهوب عزت السعدنى الذى كان يعد خليطا مشوقا من المعلومات المدققة والمدهشة ويكشف خبايا وجوانب حياتنا ليقدمها بأسلوبه الشيق فلا تتوقف عن القراءة فهو معروف بسرده الرشيق وملاحظاته الدقيقة ومعلوماته المتدفقة فى انسيابية ميزت كتاباته دائما، حتى سخريته كانت لطيفة فلا يحرج ولا يسىء ولا يقلل من شأن أحد رغم صعوبة الجمع بين السخرية وعدم التجريح وكأنه كان يرتدى قفازا من حرير عندما يكتب.
وهناك محطة مهمة متميزة للغاية فى حياة كاتبنا الكبير عندما أسس مجلة علاء الدين، وكان أول رئيس تحرير لها وجمع حوله فريقا من الكتاب والفنانين وقدم تجربة رائعة فى الكتابة لأطفالنا غير تلك التى اعتدنا عليها فى الكتابات المترجمة، فكانت مصرية خالصة تجمع بين قصص المغامرات والمعلومات والرسوم والكاريكاتير والقصص المصورة الجميلة، وأعتقد أنه جعل من تلك المجلة مدرسة تعلم فيها الملايين فجذبتهم للقراءة وشدتهم مغامراتها المثيرة وأرست القيم والوعى بنعومة وجاذبية ميزت تلك المطبوعة، وكانت فيها رائدة فى الكتابة للأطفال وتمتعت بحب الصغار وتقدير الكبار وتخرج فيها كتاب ورسامون متميزون.
وكان عزت السعدنى يرى أن الكتابة والرسم للأطفال من أسمى أنواع الكتابة وقد أمضى فيها أمتع سنوات حياته، لكن عزت السعدنى ظل يكتب النوع المميز للمقال التحقيقى ويبدع فيه بشكل لا يبارى، فكان يجمع بين الرصد والرأى والتقصى والاستطلاع والحوار ليقدم لنا واحدا من أمتع القوالب الصحفية الجديدة وكان دائما يشجع الصحفيين الشباب على التجديد والتجربة وتقديم قوالب صحفية تناسب القارئ أو تقدم الصحافة بأسلوب وبشكل جديد، فيه يتعرف الصحفى على قدراته وما يميزه ويواصل التعلم دائما، فمهنتنا متطورة سواء بوقائعها أو أدواتها وستظل مستمرة بشكل وأدوات تناسب عصرها.
أهم مايميز مسيرة الكاتبين الكبيرين كان تقاليد وأعراف وقيم المهنة والتعامل مع المرءوسين بكل احترام متبادل وحب وتفهم الاختلاف ووضعه فى حدوده دون مزايدة أو تهويل، ومع هذا لا يمكن التهاون فى الخطأ أو كسر التقاليد أو آداب المهنة، ورغم أنهما كبيران فى المقام واستمرا فى العمل بعد التقاعد فقد كانا يقدران المسئولين الأصغر سنا رغم أنهم من تلاميذهما، ولا يجدان غضاضة فى احترامهما لهم بل يفرحان بأن لهما تلاميذ يتقلدون مناصب عليا ويفخران بهم أمام الجميع ويحترمان تقاليد العمل ومسئوليته؛ لأنهما تقلدا مسئوليات كبيرة من قبل، ويقدران حجم العناء الذى يتكبده المسئول عن صحيفة أو مؤسسة صحفية، فكانا نعم المعين والناصح والمعلم. وكان وسيظل لهما كل التقدير والحب والعرفان. تغمدهما الله بواسع رحمته.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت رابط دائم: