رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بين الطبيعة والحضارة

الإنسان المنتصب القامة يقدر عمره على الأرض بنحو ستمائة ألف سنة. والإنسان المفكر يقدر عمره بنحو ثلاثمائة ألف سنة. الإنسان الحالى الذى يعيش فى ظل مجتمع تحكمه دولة لديها جيش وشرطة ومدونة بقوانين تفرض طاعتها على الرعايا هو إنسان حديث نسبياً. تقدم كبير ومتسارع حققه هذا الإنسان الحديث فى العلوم والفنون والأديان والأدوات المستخدمة. ورغم ذلك يشعر بعدم رضا وقلق ومنغصات تحيط به من كل جانب. كل هذا دفعه إلى أن يحاول تصور حياته فى حالة الطبيعة التلقائية البدائية قبل أن يعيش فى مجتمع منظم تحكمه سلطات وقوانين.

تتنوع تأملات الفلاسفة حول حالة الطبيعة فى التفاصيل ولكن يسود تصوران متعارضان. التصور الأول صاغه الفيلسوف الإنجليزى هوبز فى القرن التاسع عشر ويرى أن حالة الطبيعة كانت حالة من عدم الأمان، كل فرد يخشى الآخر وهذا يدفعه إلى الانقضاض عليه إذا واتته الظروف، وعبر عن هذا الوضع بقوله: هى حرب الجميع ضد الجميع، ولا سبيل فى هذه الحرب لهدنة لالتقاط الأنفاس والشعور بالاطمئنان ولو للحظات لأنه، حسب تعبير هوبز الشهير الإنسان ذئب للإنسان.

التصور الثانى هو تصور روسو والذى بدأه بنقد رأى هوبز حيث جعل الإنسان حيواناّ غريباّ مولعاّ بتدمير نفسه. ورأى روسو أن حالة الطبيعة كانت على العكس حالة من السلام الدائم والرضا وتسود فيها عاطفتان تتملكان الإنسان: حب الذات والشفقة، فالإنسان يحب ألا يرى الآخرين يتألمون، ولغة التواصل بين الأفراد فى حالة الطبيعة هى لغة شفافة تعبر بصدق عن مشاعرهم وأفكارهم. وسخر فولتير من روسو قائلا إن المرء حين يقرأ وصفه لحالة الطبيعة تتملكه رغبة فى العودة للسير على أربع فى الأدغال.

نشأة الدولة كانت هى الحل للخروج من حالة الطبيعة. وكان ذلك نتيجة لعقد اجتماعى تم بالتراضى بين أفراد الجماعة التى قررت الخروج من حالة الطبيعة. المهمة الأولى للدولة عند هوبز هى تحقيق الأمن ولهذا يجب أن تكون وحشاً أقوى من الجميع ليمكنها إجبارهم على طاعة القوانين. هل مع ظهور الدولة كف الانسان عن أن يكون ذئباً؟ بالطبع لا، فهذه طبيعة البشر.ولكن الخوف من سلطة الدولة يجبره على العيش فى سلام مع الآخرين. فى نظر روسو عرف الانسان فى ظل المجتمع السياسى المنظم الولع بالملكية الخاصة والرغبة فى استعباد الآخرين وتعلم النفاق والانتهازية. التقدم فى الحضارة فى رأيه يصاحبه تدهور فى الأخلاق. الديمقراطية المباشرة التى تسمح لكل مواطن بالمشاركة فى اتخاذ القرارات هى التى ستجعل الدولة تعبيرا عن الإرادة العامة.

الإنسان الآن غير راض عن ظروف حياته ولهذا لا يكف الفلاسفة عن الحديث عن التحرر. إما أن يقبل المرء الوضع يائساً من هذه الحياة بعيوبها وبوصفها لعنة لا فكاك منها إلا بالموت؛ وإما أن يطمح إلى إصلاح الحال فى المستقبل وبلوغ السعادة أو على الأقل بلوغ حياة أكثر هدوءاُ وطمأنينة.

المفكرون الذين يتصورون أن هناك إمكانية لإصلاح الحال ساروا فى مسارين: أحدهما مستلهم من روسو والآخر من هوبز. يرى ماركس وباكونين أن القهر والاستغلال سيختفيان باختفاء الدولة. وبالتالى سوف تختفى الحروب بين الأمم لأنها ستفقد مبرراتها وسيحل التعاون بين الشعوب محل المنافسة والصراع. برتراند راسل يرى أن السلام الاجتماعى داخل المجتمعات لم يتحقق إلا فى ظل دولة قوية تستطيع أن تفرض أحكامها على الناس. الفوضى التى تسود الآن العلاقات الدولية والحروب المأساوية التى تندلع بين الدول من فترة لأخرى لن تنتهى إلا بوجود حكومة عالمية تحكم العالم بأسره وتضع قوانين تجبر المجتمعات على احترامها. إذا قلنا إن مثل هذه الحكومة فى الغالب سوف تأتى تعبيراّ عن طغيان الدول القوية الكبرى صاحبة السلاح والاقتصاد القوى، يرد راسل بأن هذا طبيعى، فهكذا نشأت الدول التى تحكم الأمم. وكما بدأ كل مجتمع فى إطار من الصراع السلمى مسيرته الطويلة فى انتزاع الحقوق، هكذا سوف تبدأ الأمم فى ظل الحكومة العالمية مسيرتها فى انتزاع الحقوق ولكن فى إطار من الصراع السلمى وانتهاء الحروب.

الواقع فى تطوره المستمر وتعقده المتزايد نادراً ما يأتى وفقاً لتصورات معدة سلفاً، ولكن سعى الانسانية الدائم إلى تجاوز الأزمات التى تطرأ عليها تبقى على الأمل فى تحسن الحال ربما فى صيغة لم يتوقعها أحد.


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: