سبحت مخيلة يس في سموات التوحيد الخالص لله رب العالمين، ولم تغب تلك المخيلة طويلا، حتى عادت على شاطئ العقل الموحد، مجيبا على إشكالية زوجة العبد الصالح قائلا : قوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجر، أما نحن فيوجد بيننا من يعبدون أصناما من نوع آخر .. أصناما مصنوعة من أوهام المخيلة المريضة وضلالات العقل الرجعي المتشبس بتراث بشري عتيق!
إن بيننا من يصنع أصناما من البشر، يقدس كلامها إن قالت ويقدس كلامها إن تراجعت عما قالت! يقدس مذاهب احتكرت حق تفسير الوحي الكريم وفرقت وحدة المسلمين تحت شعارات الفرقة الناجية الوحيدة؛ نتيجة فهم خاطئ لحديث منسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يوجد خلاف على صحته بين علماء الحديث، وإن صح فهو مجرد حديث آحاد ظني الثبوت… والغريب إنهم يستندون إلى حديث ظني الثبوت في أمر من أمور العقيدة. والغريب أيضا إنهم يزعمون أنهم لا يأخذون في العقائد إلا بما هو متواتر.. لكن اغلب عقائدهم تستند إلى أحاديث آحاد غير متواترة .. انها تناقضات ومفارقات العقل الرجعي!
ــ زوجة العبد الصالح: ما هذا الذي تقوله؟ لا يزال كلامك غريبا مستغربا! هل يمكن أن توضح كلامك أكثر؟ هل يمكن أن تضرب أمثلة؟
ــ يس: هناك بيننا من يقدسون بعض الأشخاص لأنهم يؤمنون بأنهم متحدثون باسم الله، ويعتقدون انهم لا ينطقون عن الهوى، ويجزمون أنهم معبرون عن الحقيقة الإلهية!
وهناك بيننا من يعبدون ــ دون أن يدروا- الأولياء من الأموات والأحياء.. نعم إنهم لا يسجدون لهم.. لكنهم يقدسونهم ويقعون في شبهة الشرك، دون أن يدركوا ذلك، عندما يتوسلون بهم ، مع أن الله قريب يمكن التواصل معه من أي مكان دون وسيط.. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 115].
ــ زوجة العبد الصالح: هل معنى هذا انك لا تجل الأولياء؟
ــ يس: أحبهم وأحترمهم.. وأشعر بالراحة النفسية بجوارهم، وقد ورثت محبتهم عن أمي، وعن تجربة روحية مع بعضهم ممن كانوا على قيد الحياة منهم أثناء طفولتي. أحب مثلا السيد جعفر الصادق والسيدة زينب والسيد الحسين والشيخ صالح الجعفري، وأذكر أنني حضرت مجالس الشيخ الجعفري، لكنني رفضت تقبيل يده واستعضت عنها بتقبيل وجهه البهي نورا، أما هو رحمه الله فقد ابتسم لطفولتي البريئة الرافضة لتقديس بشر، ورد على هذا الرفض بتقبيل يدي الصغيرة بفمه الطاهر.. فنزلت محبته في قلبي إلى يوم الدين.. هذا هو الولي الصالح .. أما المتكبرون المتغطرسون المتفاخرون فليسوا بأولياء ولا أصحاب فضيلة. إنني لا أحب الكهنة، لكنني أحب الأولياء، وأحب كبيرهم (العبد الصالح)، لكني لا أقدسهم ولا أتوسل بهم.. أنهم صالحون، وأتعلم منهم نوعا مختلفا من العلم اللدني، لكنهم لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا.. ولا حتى يملكون ذلك لأنفسهم.. فمنهم من مات شهيدا.. ومنهم من مات مريضًا.. ومنهم من مات فقيرا.. فكيف يملكون حفظ الحياة والشفاء والغنى لغيرهم؟!
ــ زوجة العبد الصالح مخاطبة يس: لكنك تقول أيضا أن هناك من يعبدون الأحياء! من أين لك أن تقول هذا؟ إنه رأي غريب ومستغرب!
ــ يس: نعم أنا أعني هذا الكلام بدقة.. انظري حولك سوف تجدين البعض يقدسون الذين يزعمون أنهم يتحدثون باسم الله مع أنهم ليسوا أنبياء ولا رسلا من لدن الله، وهم ينتحلون دور وخصائص الأنبياء والرسل المصطفين الذين اختتمهم محمد النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.. إنهم يظنون أنهم قبضوا قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ! لا فرق بينهم والسامري إلا في موضوع العبادة الشركية... السامري يقدس العجل.. بينما هم يقدسون مذاهب وأفكار وكتب بعض البشر الفانين!
ــ زوجة العبد الصالح: أتفق معك .. هم يزعمون أنهم يملكون الحقائق المطلقة... بينما الحقائق المطلقة لا يملكها إلا الله تعالى.. من يزعم أنه يمتلك الحقائق المطلقة كأنه يزعم امتلاك قدرة إلهية حصرية.. العلم الكلي الشامل.. وهذا شرك - أو شبهة شرك- بصرف النظر عن حسن النوايا أو سوئها.. فلا يملك العلم الكلي الشامل سوى ربنا العلام العليم، (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه: 98].. (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الأعراف: 89].. (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 80]
ــ ثم التفتت زوجة العبد الصالح مخاطبة زوجها: أراك صامتا.. ماذا ألم بك؟
العبد الصالح: طريقتك في الخطاب لا تعجبني.. يبدو أني لن أستطيع معكِ صبرا!
ردت زوجته قائلة: بل تستطيع! لا زلت أنتظر إجابتك!.
-----------------------------------------
أستاذ فلسفة الدين ــ رئيس جامعة القاهرة
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
لمزيد من مقالات د. محمد الخشت رابط دائم: