تكشف لنا النظرة السريعة إلى الإعلانات الكثيفة، التجارية، والراقصة، التى تتخلل الدراما التليفزيونية الرمضانية، فتفسد متعة المشاهدة وتعطل وصول رسائلها الفنية بالسلاسة المطلوبة، وتثير شهوات الاستهلاك الحارة فى شهر ينشد فيه الناس راحة العقل وسكينة النفس، إلى أى مدى غابت الروحانية عن مجتمعاتنا، وكيف أن أنماط الاستهلاك الفج باتت تضغط عليها فى أخص أزمنتها وأكثرها قداسة، ما يهدد بفقدانها المتزايد لحال السكينة، ونمو شعورها بالتوتر، بعد أن نجحت السوق فيما فشلت فيه أكثر الدول علمانية، وهو نفى الروحانية وتهميش الدين، الذى تجاذبته فى عالمنا الحديث مقولتان أساسيتان: الأولى هى نهاية الدين، التى مثلت الحد الأقصى لادعاءات الحداثة والمجتمع الصناعى ضد الإيمان الديني، فى الفترة الممتدة بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، قبل أن تهدأ موجتها الهادرة وتتواضع طموحاتها وتكتفى بإحالة الدين إلى أمر شخصي، قد تنفذ بعض إشعاعاته إلى المجال العام الاجتماعي.
أما الثانية فهى خصخصة الدين التى عكست منطق مجتمعات ما بعد الصناعة/ الحداثة.. الخ، فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقدين المنصرمين من الحادى والعشرين، وهى مقولة أكثر خبثا ومراوغة، لا تطلب رأس الدين صراحة لكنها تسعى إلى تفكيكه.
انطلقت المقولة الأولى نهاية الدين من تصور متشائم باستحالة وجود أديان كبرى تقبل بالعلمنة السياسية، وتتعايش مع الحرية الفردية، ولذا أرادت الخلاص من الدين، طلبا للحرية. وفى الحقيقة لم تكن هذه المقولة مجرد طرح نظرى برىء لدى القائلين بها، بل كانت أقرب إلى برنامج سياسى نهضت به حركات اجتماعية وأحزاب سياسية، وتمت ممارسته من أعلى بواسطة أدوات الدولة القسرية كما جرى الأمر فى فرنسا الثورية، وفى الاتحاد السوفيتى وفى تركيا الكمالية، حيث مورست العلمانية بصيغ أصولية، قهرت الحرية الفردية.
هذه المقولة هزمت تاريخيا، فالعلمانية الفرنسية تنازلت عن جزء يعتد به من غطرستها وأحاديتها، والاتحاد السوفيتى انهار بأيديولوجيته الشيوعية لتعود الأرثوذكسية على أنقاضها إلى الفضاء الاجتماعي، مثلما تراجعت تركيا عن علمانيتها الراديكالية، بل إنها باتت اليوم أقرب إلى صيغة مخففة من الإسلام السياسي. المفارقة هنا أن مقولة نهاية الدين قد هُزمت رغم انتصار العلمانية سياسيا، بل ربما بفعل هذا الانتصار، بعد أن اعترفت بها الكنيسة الكاثوليكية فى المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 ـــــ 1965) اعترافا نظريا وليس فقط واقعيا، حيث صارت حرية العقيدة راسخة ومتجذرة فى مفهوم (الكرامة المقدسة للكائن البشرى). ورغم استمرار هيبة الكنيسة فإنها اعترفت بمبدأ الحرية الدينية وتخلت عن أى محاولة لإنشاء أحزاب كاثوليكية بغرض الدفاع عن حظوظها فى السلطة أو عن امتيازاتها الدنيوية، وباتت أقرب إلى مجرد مؤسسة مدنية تعمل فى قلب المجتمع بحرية ضمن الأطر القانونية للدولة، ما أفضى إلى تحرير الدين من الدولة وتحرير الدولة من الدين وتحرير الإنسان كمؤمن ومواطن من هيمنة كلتيهما، ولذا كان انسحاب الدين من المجال العام وفك قبضته عن رقبة الدولة بمثابة انفراجة كبيرة قدمت له الحماية وسمحت باستمراره فى قلب المجتمع.
أما المقولة الثانية/ خصخصة الدين فلم تنطلق من مبدأ نظري، ولم تُفرض من أعلى بقوة القسر بل نبتت من أسفل بقوة الإغواء، كونها صيرورة واقعية مستقلة عن الدولة والدساتير والقوانين، تستند إلى بنية مادية فائقة، وتشق طريقها على نحو لامرئى فى قلب مجتمعات الما بعد (الصناعة.. الحداثة.. الخ)، التى ترفض الإحالة على أية مرجعيات قيمية تتجاوز ممارسات الحياة اليومية، وتنطق باسم ذات فردية تتمركز باستمرار حول نفسها. هذه المقولة تبدو منتصرة واقعيا دون إعلان رسمى عن انتصارها، فمن دون قواعد تقننها أو دساتير تتضمنها، تبدو زاحفة بقوة فى قلب جميع المجتمعات، حتى تلك التى تتستر خلف لافتات دينية، متسربلة فى نزعات دنيوية فجة وممارسات مادية متطرفة أحالت الدين إلى رأسمال رمزى أخذت تتعاطى معه كسلعة يجرى تداولها بأدوات السوق حسب قانون العرض والطلب، وبطريقة الدليفرى، تقتحم مناسباته، وتطرح وسائل جديدة لممارسة طقوسه، وتستغل مشاعر المتدينين وتوجهها إلى حيث تريد، ولذا فإن التحدى الذى يواجه عالمنا اليوم ليس هو موت الإله كما ذهب نيتشه بل موت الإنسان نفسه، لا عبر قتل الجسد، مناط الاستهلاك وموطن الإغواء، بل عبر تفكيك الروح، جوهر الإنسان.
المفارقة هنا أن عصر التنوير، كان قد تصور الإنسان باعتباره سيد الأرض، الكائن المريد القادر دوما على ممارسة الاختيار الأخلاقى الحر، والذى تمكن بعد كفاح تاريخى طويل وتقدم علمى مبهر، من إخضاع الطبيعة للعقل. غير أن ذلك الإنسان بات اليوم أداة طيعة فى خدمة سوق تزايد اتساعها وقسوتها حتى صارت وحشا كبيرا يمد أذرعه العنكبوتية على أربعة أنحاء الأرض، صانعا لنمط حياة يتقولب فيه البشر تدريجيا، بفعل اشتراكهم فى نمط عيش شبه موحد يجرى تصميمه وترويجه من قبل مراكز بعينها، ما يجعل منه سردية كبرى مهيمنة تقلل من أهمية سرديات الهوية الدينية والقومية والوطنية، التى تصير جميعها مجرد تفاصيل تنزاح إلى موقع الهامش على متن نمط الحياة الاستهلاكى السائد. ومن ثم يتضح لنا أن ما فشلت الدول القومية فى تحقيقه سلفا رغم قدرتها على القمع، نجح السوق الرأسمالى فى بلوغه بمحض قدرته على الإغواء. وأن عالمنا اليوم إنما يحتاج إلى إعادة ضبط بوصلته على حركة التاريخ انطلاقا من إيمان روحى نشيط يُكرس الفعالية الإنسانية دون عدوان على الذات الإلهية، يرفض الخرافة المجافية للعقل دون إحالة العلم إلى ديانة علموية، يتجاوز المؤسسات الدينية المعاندة للإرادة تكريسا للنزعة الإنسانية من دون ربط حتمى بينها وبين الإلحاد.
[email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم رابط دائم: