ظل الجميع فى حالة وجوم متطلعين إلى إجابة العبد الصالح عن سؤال زوجته المفاجئ:
ـــ هل هذا التراجع فى فهم أتباع الدين للدين، يستلزم دينا جديدا؟
ـــ أجاب العبد الصالح: لسنا بحاجة إلى دين جديد، بل نحن بحاجة إلى عقل جديد.. إن الدين الخاتم يتضمن ثوابت ومتغيرات، ويصلح لكل زمان ومكان.. وباب الاجتهاد فى فهمه مفتوح ومتغير ومتطور.
هنا ظهر هاتف من عالم القرن الحادى والعشرين الميلادى، يحمل صوتا يهتف منذ زمن: «الثوابت من حيث المصادر هى القرآن والسنة المتواترة. وهناك ثوابت من حيث الموضوعات، مثل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وأيضا أركان الإسلام الخمسة. أما المتغيرات فمثل الأحكام المستنبطة من النصوص متعددة المعانى، وتصل مساحة تلك المتغيرات فى الدين فى أقل تقدير إلى 75%، ويصل بها البعض إلى 95%، لأنها تشمل كل الآيات والأحاديث المشتملة على ألفاظ أو عبارات متعددة المعنى حسب قواعد اللغة العربية ودلالات معاجمها، وهى غير قاطعة فى دلالتها على معنى واحد من القرآن الكريم والسنة المتواترة. وهذا أحد أسباب اختلاف الفقهاء والمفسرين فى تحديد معانيها ومقاصدها، مما يعنى أنها أبواب مفتوحة للتجديد فى التدبر والفهم...
علق العبد الصالح قائلا: هذه أبواب للرحمة فتحها الوحى الكريم.. بينما يريد المتحدثون باسم الله إغلاقها. ثم عاد العبد الصالح ليكمل إجابته:
بعد الدين الخاتم ليس الإنسان بحاجة إلى دين جديد، لأن الدين النقى موجود فى منابعه الأصلية: القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة الثابتة بيقين ـــ وليست بظنية الثبوت ـــ عن النبى عليه الصلاة والسلام.
ـــ هنا تساءل يس: إذن أين المشكلة؟
ـــ قال العبد الصالح: تكمن المشكلة فى أمور كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها كلها، وسوف أكتفى ببعض منها، مثل:
ـــ عدم التمييز بين الإلهى والبشرى فى أمور الدين، مثل عدم التمييز بين ما قاله الكتاب الكريم وأقوال الفقهاء والمفسرين.
ـــ عدم التمييز بين الثابت والمتحول.
ـــ عدم التمييز بين السنة المتواترة والآحاد تمييزا فعليا عند استنباط الأحكام.
ــ الفهم القاصر والخاطئ للنصوص المقدسة.
ـــ عدم سلامة طرق التفكير.
ـــ ضعف طرق الاستنباط والاستدلال.
ــ اضمحلال الوعى بالسياق، وعدم تفسير الكتاب بالكتاب.
ــ عدم التفكير فى ضوء المتغيرات والمستجدات الاجتماعية والثقافية والعلمية، وعدم مراعاة المصالح المرسلة مراعاة حقيقية، والإصرار على التفكير وفق نظم اجتماعية وثقافية وتقاليد قبلية موروثة.. ربما تصلح لعصورها.. لكنها لا تصلح لعصورنا.
علاوة على تدخل أصحاب المصالح فى فهم الدين لتحقيق مصالحهم الذاتية وليس لتحقيق المصالح العامة. وهذا ما يستغله بعض الكهنة لاحتكار سلطة التفسير واستنباط الأحكام.
ـــ زوجة العبد الصالح: من هنا يكون الإنسان بحاجة إلى فهم جديد للدين يخلص أتباعه من العناصر الأسطورية والشركية والرجعية، أى بحاجة إلى تأسيس فهم دينى جديد للمنابع الأصلية فى حدود العقل النقدى المنضبط والكتاب والسنة المتواترة، وتحقيقا للمقاصد الكلية للدين فى عمران الأرض والارتقاء بالحياة الإنسانية.
التفت يس إلى زوجة العبد الصالح متسائلا:
ـــ لقد استغربت منكِ هذا السؤال.. ألديك شكوك فى الدين الخاتم؟
ـــ أجابت بثبات: طبعا لا .. لكن الوحى الكريم أمرنا بأن نعمل عقولنا، وأنا أنفذ فرائض الوحى ليس فى الطقوس فقط، ولكن أيضا أنفذ أوامره بالتعقل والتدبر، بل وأتصورها فريضة/ فرائض مستدامة..
ثم تابعت بلهجة صارمة موجهة حديثها إلى يس: عليك أن تتذكر أننا على وشك الطواف، وعليك أن تتذكر سورة الحج، وماذا قال الوحى الكريم فيها: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» [الحج: 46]. إننى لا أريد أن أكون مثل الأنعام «لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» [الأعراف: 179].
رد يس: أتفق معكِ.. الله أمرنا نحن، أمرنا فردا فردا بالتدبر والتعقل، ولم يطلب منا أن ننقاد مثل البعير، ولم يطلب منا أن ننساق وراء الآخرين.
هنا قفز إلى مخيلة يس مشهد إبراهيم عليه السلام مع قومه عندما رفض الانصياع لكهنتهم الذين يريدون أن يحتكروا الحقائق الإلهية، ووبخهم قائلا: «أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» [الأنبياء: 67، 68]..
ردت زوجة العبد الصالح: لا تنس أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، ولم يعد بيننا مَن يعبد الأصنام!
ـــ رد يس متقمصا طريقة العبد الصالح: سوف أجيبك مع مطلع فجر جديد إن شاء العلام العليم.. نسأل الرحمن الفرج.
لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
---------------------------------------
أستاذ فلسفة الدين ــ رئيس جامعة القاهرة
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
لمزيد من مقالات د. محمد الخشت رابط دائم: