مصر على عتبة مرحلة جديدة من الانفتاح السياسى بعد حوار وطنى يناقش التحديات والأولويات، يضع أسس البناء الديمقراطى الذى سيكون أحد أعمدة الجمهورية الجديدة، وكان قرار تفعيل لجنة إطلاق السجناء خطوة مهمة، أهم دلالاتها أن مصر اجتازت مرحلة الفتن السياسية واطمأنت إلى أن صفحات الإرهاب والفوضى قد طويت، وأنها مقبلة على مرحلة جديدة، يصطف فيها أبناؤها من أجل البناء، ويشاركون فى صياغة وصنع المستقبل، لكن علينا جميعا مهمة ألا ندع مجالا لعودة الإرهاب والفتن والفوضى، وأن يكون البناء الديمقراطى أحد أدوات الحوار العقلانى والهادئ، الذى يستهدف تحقيق المصلحة العامة، وأن نتعظ مما حدث حولنا من احتراب أهلى مزق الكثير من البلدان العربية، فالجزائر مرت بالعشرية السوداء التى أودت بحياة عشرات الآلاف، وليبيا تسعى للخروج من دوامة الانقسام، التى غذتها قوى خارجية، ومازالت تبحث عن مخرج من أجواء الصراعات التى أهدرت الكثير من الأرواح والثروات والوقت، وكذلك رأينا ما حدث فى سوريا والعراق واليمن والسودان.
كل هذه الأهوال مرت بها منطقتنا، وتلك الأحداث مازالت ماثلة أمام أعيننا، لا نبالغ فيها، ولا نذكّر بها لمجرد أن نقول إن حالنا كان أفضل، وأننا تمكنّا بسرعة من أن نتخطى أوضاعا كهذه، وإنما لنأخذ العبرة، ونتأمل ما مررنا به، حتى نستطيع تجنب أى مخاطر، وألا ندع أى فرصة أمام جماعات التخلف والإرهاب، التى انقادت إلى العنف، وتحولت إلى أدوات لتخريب أوطانهم بأيديهم.
إننا لم نبرأ تماما من تلك الأفكار والجماعات، التى مازالت بقاياها موجودة، وإن كانت أكثر ضعفا وأقل قدرة على التخريب والتفجير، والضمانة الوحيدة لعدم عودة هؤلاء، وقطع كل الطرق أمام عودتهم تتمثل فى الوعى والاصطفاف الوطنى، الذى يمكن أن يمنع إعادة تنظيم صفوفهم، أو توفير البيئة المناسبة لبث سمومهم.
ما يبعث على التفاؤل رغم كل هذه الأحداث، وما جلبته من تخريب ودمار وخسائر وأزمات أن مصر استطاعت الوقوف على قدميها بكل إباء وشموخ وقدرة على التحدى، وشعبها لديه الرغبة فى اجتياز كل تلك المحن بعد أن دفع أثمانا كبيرة بكل فئاته، وأتذكر كيف كنا نضع أيدينا على قلوبنا، ونحن نقترب من مناسبات دينية تشتعل فيها العمليات الإرهابية، منها شهر رمضان، وكذلك أعياد أهلنا الأقباط، فالإرهابيون حوّلوا الشهر الكريم إلى مناسبة لأشد أعمالهم وحشية، بدلا من جعله مناسبة للحب والتسامح والوئام والتعبد، وبدلا من أن يشاركوا إخوتهم الأقباط فرحتهم، أو على الأقل تركهم ينعمون بالأمن والاستقرار، كانوا يتربصون بهم، ويضعون مفخخاتهم وأحزمتهم الناسفة وحقائب متفجراتهم بالقرب من أماكن العبادة، والحمد لله أن شهر رمضان الكريم الذى تزامن مع أعياد الإخوة الأقباط مر بأمان وسلام، وكانت مائدة الأسرة المصرية رمزا لحالة الوئام التى تمر بها مصر.
نموذج آخر نراه الآن عن استعداداتنا لاحتواء تداعيات الحرب فى أوكرانيا، والتى تسببت فى موجة تضخم وارتفاع فى الأسعار على مستوى العالم، بعد الارتفاع الكبير فى أسعار الطاقة والقمح والحبوب وغيرها من المنتجات، وبدأنا فى إجراءات زيادة الرقعة المزروعة بالقمح، مع منح المزارعين حوافز على زيادة الإنتاج وتوريد القمح، بما يكفينا تسعة أشهر كمخزون يوفر لنا رغيف الخبز، وهذه بداية لكى نحقق الاكتفاء الذاتى من السلع الإستراتيجية، وأهمها القمح والغذاء، وكان إعلان وزير الرى عن زيادة كبيرة فى المساحة المزروعة بالأرز خطوة أخرى فى هذا الاتجاه، بما يمكن مصر من تخطى الأزمة الحالية بأمان وثقة.
أما أهم الخطوات الكبيرة المنتظرة فكانت النهوض بالصناعة الوطنية، والاعتماد على صناعتنا فى توفير متطلباتنا دون اللجوء إلى الاستيراد، بما يوفر فرص عمل جديدة فى قطاعات مهمة، فبعد إقامة العديد من مدن الجيل الرابع، وتوفير البنية الأساسية المناسبة والمتطورة، والتحول إلى الإدارة الرقمية، وتطوير الجهاز الإدارى وخدمات الطرق والاتصالات والمواصلات وتوفير فائض من الطاقة الكهربائية، سيكون الإنتاج الصناعى على مستوى كبير من التطور، ينافس المنتجات العالمية، ويوفر ما كنا ننفقه على الواردات من تلك المنتجات الصناعية.
إن الانطلاق فى مجالى الصناعة والزراعة على أرضية صلبة من المرافق والخدمات سيكون من أهم الخطوات التى تنقل مصر إلى مكانة مهمة، ونحن نستحق أن نكون من الدول الصناعية الكبيرة، بحكم تاريخ طويل فى الصناعة والزراعة، وتراكم خبرات، لكنها عانت من إهمال، وتقادمت، وتخطتها التكنولوجيا الجديدة التى دخلت جميع الصناعات، فكان علينا أن نعيد تأهيل بنيتنا الأساسية والعمالة الماهرة القادرة على التعامل مع الصناعات الحديثة، وفتح الباب أمام اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، لنكتسب المزيد من الخبرة، ونستطيع اللحاق بركب الجيل الجديد من الصناعات التى تلعب فيها التكنولوجيا الدور الأساسى، وبهذا تكتمل حلقات التطور الخدمى والتقنى والزراعى والصناعى مع قطاعات أخرى متميزة مثل السياحة، ويتكامل دور الدولة مع القطاع الخاص فى النهوض بهذه القطاعات المهمة والواعدة، وعلى رجال الأعمال أن يضعوا فى اعتبارهم الاستثمار فى تلك القطاعات الحيوية، ما دامت تمدهم الدولة بالدعم، وتوفر المناخ الاستثمارى المناسب، وبهذا تكتمل دعائم الجمهورية الجديدة، التى نبنيها فى ظل الكثير من التحديات، وما يتحقق بالكثير من الجهد والعرق والعطاء والصبر يصبح صلبا وقويا، ويتغلب على الأزمات، ويظل يحقق النجاح تلو الآخر.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت رابط دائم: