رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الأقصر.. قامات ومقامات دينية

من حسن حظى أنى نشأت فى «أرمنت» بلدة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان منزلنا يطل على المسجد الذى بناه، وتعلمت على يد شقيقه الذى كان ناظر مدرستى، وأتذكر كيف كانت تحتشد البلدة عن بكرة أبيها عند قدوم الشيخ عبد الباسط، الذى كان قد ذاع صيته فى أرجاء المعمورة، وكان أبناء البلدة يتسابقون على تسجيل قراءته وترتيله للقرآن الكريم، ويتفاخرون بما سجلوه بأجهزة الكاسيت التى كانت تصدح دائما بقراءاته، خاصة فى أيام رمضان.

وظللت أفخر دائما بأننى من بلدة الشيخ عبد الباسط، وأقول من هنا انطلقت تلك الحنجرة الذهبية، التى أسمعت الدنيا آيات القرآن الكريم، وهزت القلوب بتلاوته العذبة، وطافت فى أرجاء الأرض تتلو آيات الذكر الحكيم، ومازالت قراءاته تبهر السامعين وتهز الوجدان .

وأتذكر أننى وأقرانى كنا نتجمع لنمضى مع الحشود التى تتوجه نحو منزله، أو لسماعه فى أحد السرادقات التى جاء ليتلو فيها القرآن الكريم، وكان قد اعتاد زيارة البلدة رغم كثرة مشاغله وسفرياته خارج مصر، ويتحين كل مناسبة ليكون بين أهله وأصدقائه من أهل أرمنت، التى حفظ فيها القرآن فى السادسة من عمره، وأتقن تلاوته فى سن العاشرة على يد الشيخ محمد الأمير شيخ كتاب القرية، وعندما طلب من والده أن يتعلم القراءات، اختار طنطا ليتتلمذ على يد الشيخ محمد سليم، وبينما كان يستعد للسفر علموا بوصول الشيخ محمد سليم إلى أرمنت ليدرس القراءات فى معهدها الدينى، وكأن الله قد ساق إليه ما تمناه، ليخرج لنا هذا الصوت الصادح بآيات السماء، فكانت شهرته الواسعة، وأصبح أول رئيس لاتحاد القراء.

ومن قلب ساحة الطيب فى الأقصر أيضا شبَّ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والساحة تنتسب إلى جده الذى كان واحدا من أبرز مشايخ الصوفية، وكانت ساحته عامرة بالأذكار والتعبد والإنشاد الدينى، إلى جانب دورها الاجتماعى، فكانت ساحة مفتوحة دائما لكل محتاج أو سائل أو صاحب مشكلة أو طرف فى خصومة أو مشكلة، ، وظلت تشهد جلسات الصلح، يأتيها المسلم والمسيحى وكل من أراد المشورة، وعندما يحضر الإمام الأكبر، تزدحم بالجموع التى تأتى من الأقصر ومن خارجها، لتظل ساحة للوئام والتسامح والمحبة، وعندما كنت أجتمع بالشيخ الجليل، سواء بالمصادفة أو التدبير، كنت أستمتع بحديثه المشوق، والذى يجمع بين البساطة والعمق، فهو المحب للفلسفة الدارس لعلومها، المطلع على شتى المدارس الفلسفية، من علم الكلام إلى الوجود والماهية وحتى الماركسية، فأجدنى فى حضرة عالم واسع المعرفة، وبقلب زاهد صوفى، يحن دائما إلى أن يكون فى بلدته «القرنة»، الواقعة غرب الأقصر، والمليئة بالمعابد والمقابر الفرعونية، وتطل على مسجد السيد يوسف بن السيد أحمد يونس شيخ الطريقة الخلوتية، الذى يمتد نسبه إلى العارف بالله أبو الحجاج الأقصرى، الذى سُمِّى المسجد الشهير الملاصق لمعبد الأقصر باسمه، والذى تم إنشاؤه عام 1286 ميلادية فى العصر الأيوبى، ليصبح من أهم المعالم الأثرية، ويقام له احتفال سنوى بالأقصر، معروف باسم مولد أبو الحجاج، يقصده الآلاف من كل الأنحاء.


وعلى مقربة من مسجد أبو الحجاج تجد مسجد أحمد النجم نسبة إلى ابن السيد أبو الحجاج، والذى كان قد حصل على إجازة من علماء الأزهر فى العلوم الشرعية بعد دراسة دامت عشر سنوات على أيدى كبار العلماء، عاد بعدها إلى الأقصر ليصبح من أعلامها، وبعد وفاته ودفنه، أقام له محبوه ومريدوه مقاما فى مكان دفنه، ثم تبرعوا بأرض حوله، تحولت إلى مسجد كبير يطل على النيل، وأصبح دارا للاحتفال بالمناسبات الدينية.

وكان مولد أبو الحجاج من أهم المناسبات التى كنت أنتظرها، فقد كان مناسبة لأكبر التجمعات، ويأتينا فيها الأقارب والأصدقاء لحضور فعاليات المولد الثرية، التى تظل ذكراها فى العقول والقلوب طوال العمر.

وإلى جانب هذه العلامات والقامات والمقامات السامقة، يوجد عدد من المساجد المحببة إلى نفسى، منها مسجد الشيخ حفنى شرق السكة الحديد، والذى لا أنسى أن طالبنى المصلون فيه بإلقاء خطبة الجمعة عندما تغيب إمام المسجد، وارتجلت الخطبة واضطربت بشدة، وأنا أكاد أرتجف من مهابة الموقف، ولم أهدأ إلا بعد أن تلقيت تحية وثناء المصلين.

تجول بخاطرى الكثير من الذكريات حول هذه الأماكن والشخصيات المحفورة فى عقلى ووجدانى، وأرى أننى كنت محظوظا بالكثير جدا من المواقف والأحداث فى هذا المكان الذى حظى بمكانة كبيرة، وجمع بين رموزنا المصرية القديمة وآثارها الخالدة، التى تؤكد أننا أبناء حضارة عريقة، ممتدة الجذور، كما تزخر بالروح الإسلامية الرحبة والمتسامحة، وأجد أن الأقصر قد حباها الله وأنعم عليها بأنها تضم بين ضلوعها كل تلك الأماكن التى تجمع عناصر حضارتنا فى مكان واحد، فأصدقائى المسيحيون كانوا يحضرون مولد أبو الحجاج، وكنت أشاركهم مناسباتهم الدينية، وتظللنا معا تلك المعابد الفرعونية التى تؤكد وحدتنا وأصالتنا، وكلما تذكرت كم كنت محظوظا بحضور قراءات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكم استمتعت بالنقاش مع فضيلة الإمام شيخ الأزهر، وذكريات موالد أبو الحجاج، وحضور المناسبات فى مسجد أحمد النجم، ومغامرة إلقاء خطبة الجمعة وأنا طالب فى المرحلة الثانوية، وعشقى التجوال بين معابد الأقصر ومعالمها الأثرية، أيقنت أن مصر مليئة بالكثير والكثير من معالم التقدم والثراء الروحى والفكرى، وأنها جديرة بمكانة كبيرة، أتمنى أن أراها درة على جبين الأمم.


لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت

رابط دائم: