رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

اللغة روح النهضة

إذا كانت النهضة الحديثة هى الميلاد الجديد كما يسميها الأوروبيون ولهم الحق، فاللغة هى روح النهضة. ليس فقط لأن النهضة عصر جديد تتطور فيه المبادئ والقيم والنظم والمؤسسات وتحتاج بالتالى لأسماء جديدة تبحث عنها فى اللغة التى يجب أن تكون حية مستجيبة لما يطلب منها، بل لأن اللغة قبل أن تسمى ما يجد فى النهضة تتنبأ به وتتصوره وتنفعل به وتتوقعه وتحوله إلى أفكار وأشعار، وإلا فمن أين تأتى النهضة؟ إنها تأتى عن شعور الانسان بأن الواقع الذى ورثه عن أسلافه فقد قدرته على التطور والاستجابة وأصبح عاجزا عن أن يلبى للانسان مطالبه الحيوية فلابد من النظر فيه وتغييره وبناء واقع جديد يكون امتدادا لما بقى حيا من الماضى واكتشافا للجديد المولود فى الحاضر وتغذية له وتنمية حتى يزهر ويثمر ويعطى.

غير أن هذا التطور الجوهرى لا يتم مرة واحدة أو بين يوم وليلة، وإنما هو وقائع وظواهر وتطورات وتحولات يستدعى بعضها بعضا حتى تتحقق لها الغلبة فيتم الانتقال. لأن أى تحول فى أى ميدان من ميادين النشاط الانسانى لابد أن يكون له تأثيره فى بقية الميادين المتصلة به. هذا التأثير يكون فى بعض الأحيان مقبولا، ويكون مرفوضا أيضا فى بعض الأحيان تقاومه بعض الأطراف التى تعودت أن تمارس حياتها كما تلقتها ونشأت فيها حتى تدرك حاجتها للتغيير وترى له آثارا إيجابية تشجعها على قبوله. ونحن نتكلم هنا عن النهضة، أى عن تطورات تحدث فى نطاق واسع يواجهها المجتمع بصور مختلفة وبردود فعل تتفق وتختلف وتعبر عن درجات الوعى وعما يملكه هذا المجتمع بأفراده وطبقاته وطوائفه من أشكال التعبير وأدواته. ولأننا نتكلم عن النهضة المصرية التى ظهرت بوادرها فى أوائل القرن التاسع عشر فنحن نبدأ مما سبقها، أى من القرن الثامن عشر الذى شهد حدثين مهمين انتهى بهما عصر وابتدأ عصر جديد. الحدث الأول خروج على بك الكبير شيخ البلد على تركيا وإعلان استقلال مصر عنها وتحالفه ضدها مع الروس. والآخر دخول الفرنسيين مصر. هذان الحدثان كانا تعبيرا عن تطورات داخلية وعن تغيرات فى ميزان القوى الدولية وفى علاقة الغرب بالشرق وجدت فى المصريين من يلتفت لها ويقف منها مواقف جديدة يبنيها على المصلحة والعاطفة الوطنية.. فمصر لها الحق فى أن تستقل عن تركيا. والاتفاق فى الدين لا يبرر للأتراك أن يحتلوا مصر وينهبوا ثرواتها. والاختلاف فى الدين لا يمنع المصريين من التعامل مع الأوروبيين والاستفادة من أفكارهم وعلومهم ونظمهم. هذه المواقف لم يعلن عنها المصريون بصراحة إلا فى بعض التعليقات التى نقرأها فى كتاب الجبرتى يعبر فيها عن رأيه أو ينسبها لغيره. فضلا عن أن مسيرة النهضة التى بدأت مع محمد على وانخرط فيها المصريون بحماسة تشير إلى أن ما صنعوه فى القرنين الماضيين كان خواطر راودتهم قبلها. والذين يتشككون فى أن تكون هذه الخواطر قد راودت المصريين فى القرن الثامن عشر ينسون أن مصر كانت أول دولة مركزية موحدة فى العالم، وأن هذه الدولة قامت فى بدايات الألف الثالثة قبل الميلاد وظلت قائمة إلى أواخر الألف السابق على الميلاد. وإذا كان الأجانب قد حكموا مصر بعد ذلك فقد انفصل بعضهم أو كثير منهم عن الامبراطوريات التى خرجوا منها وأنشأوا فيها دولا مستقلة كما فعل البطالمة، والطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، والأيوبيون، والمماليك، ومحمد على وأسرته. هذا التاريخ الذى استعرضناه ما هو مكان اللغة فيه؟

مكان اللغة فيه هو مكان النهضة. فاللغة تتراجع فى عصور التراجع والانحطاط، وتحيا وتزدهر فى عصور النهضة والتقدم. وهذا ما عبر عنه الأستاذ عباس محمود العقاد فى السطور الأولى التى بدأ بها حديثه عن شاعر النيل حافظ إبراهيم فى الكتاب الذى أصدره بعنوان «شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضي»، وقال فيها: «ظهرت طلائع النهضة الشعرية فى مصر حين ظهرت طلائع الثورة التى عرفت باسم الثورة العرابية، ولم تسبقها نهضة مذكورة بعد الركود الذى أصاب الشعر العربى كله فى أعقاب الدولة العباسية.

هذه النهضة الشعرية التى ظهرت طلائعها مع طلائع الثورة العرابية تستحق أن تسمى معجزة، لأنها لم تكن مجرد لغة ميتة أو شبه ميتة عادت إلى الحياة، وإنما هى ميلاد جديد بالفعل لثقافة لم تكتف بأن تعود حية كما كانت من قبل، بل تجاوزت هذا الحد وأنشأت فنونا وعلوما لم تكن فيها من قبل، وبلغت فيما استعادته وفيما أنشأته فى بضعة عقود مستوى رفيعا لم تبلغه بعض الثقافات الأوروبية إلا فى خمسة قرون أو أكثر.

ويكفى أن نقارن بين ما كان يكتبه بعض شيوخ الأزهر فى أوائل القرن التاسع عشر وما صار يكتبه محمد عبده، وأحمد لطفى السيد، والبارودي، وشوقي، وحافظ، وطه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، ومندور، وسلامة موسي، والدكتور هيكل، والمازني، وغيرهم من الشعراء، والروائيين، وكتاب المسرح، والنقاد، والمفكرين الذين ظهروا فى الأجيال التالية لنرى أنها كانت بحق معجزة! هذا هو مكان اللغة فى نهضتنا الحديثة. وهذا هو الدور الذى أدته فيها، دور الرائي، الرائد، المكتشف، الممتحن، المقترح، المحرض. واللغة لا تؤدى هذا الدور فى النهضة وهى على مسافة منها، بل تؤديه وهى فيها. تؤديه فكرا وقولا وفعلا، لأنها تتجسد فيها وتمكنها من أن تكون بالفعل ميلادا جديدا يتحقق فيه النضج والشمول، ويحتاج مثله مثل أى مولود جديد لأن يسمى تسمية تعرف به وتحدد وظيفته. وهو دور بالغ الأهمية، لأن التسمية تعبير عن وعى يجب أن نتأكد من صحته، والا خدعنا أنفسنا وسمينا الأشياء بغير أسمائها، ولو راجعنا تجاربنا فى تسمية الأحداث والتحولات التى مرت بنا خلال العقود الأخيرة لوجدنا أننا لم نكن موفقين دائما.

ومن هنا حاجتنا الملحة للنظر فيما وصلت إليه لغتنا فى الوقت الراهن وانتهاز أى فرصة تتاح لمراجعة ما يطرأ عليها ويجد والتذكير بما يجب أن نقدمه لحمايتها ودعمها وتزويدها بما يمكنها من أداء وظائفها بكفاءة، وهذا ما قصدته حين عبرت عن أسفى الشديد لأن العالم احتفل بربيع الشعراء فى الشهر الماضى ونحن غائبون. كأننا نعيش فى عالم آخر لا ربيع فيه، ولا شعر، ولا لغة!


لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: