توقفنا فى نهاية المقالة السابقة عند التاريخ ١٩٨٤، العام الشهير أدبيا الذى تحدث عنه چورچ أورويل فى روايته التى كتبها فى أربعينيات القرن الماضى وتنبأ فيها بفساد الأرض تحت حكم فاشى يَدّعِي الاشتراكية والعدالة، خلال نصف قرن، وأعطى روايته عنوانا يحدد عام بلوغ هذا الفساد ذروته، فسماها (١٩٨٤). وتساءلنا لماذا يتوقف هاروكى موراكامى فى أكثر من عمل له عند ذلك العام ويجعله مدار أحداث روايتين له على الأقل؟ (صادف أن آخر روايتين ناقشناهما للكاتب: يوميات طائر الزنبرك و1Q84 تدور أحداثهما فى ذلك العام ). لا يمكن لهذا التركيز على عام ١٩٨٤ أن يكون محض مصادفة. إذن ففساد الأرض والإنسان على هذا الكوكب هو ما يلمح إلينا موراكامى أنه موضوع الروايات الثلاث: رواية أورويل التنبؤية وكانت سياسية محضة، وروايتى موراكامى اللتين تجعلان الفساد السياسى خلفية غير مباشرة لأحداث تخص أفرادا نراهم فى البداية عاديين، إلا أنهم مع تعقد الأحداث نراهم واقعين فى شبكة عنكبوتية قدرية تختلط فيها وحشية الحرب بالفساد المتأصل فى جينات الإنسان وتحت تأثير قوى غيبية غامضة. فالمدينة الفاسدة عند موراكامى ليست مجرد انتصار لجماعة من الساسة الفاشيست يحكمون العالم، كما تنبأ أورويل؛ بل إنها منظومة من الشر القهرى تبدأ من جينات الإنسان وتتدعم بفساد الساسة وتتصل بالشر السارى فى الكون كله, فتبدو شخصيات الرواية وكأنها دمى لا حول لها يشحنها بالعذاب والعبث القهرى زنبرك خفى, حيث تلعب بالناس قوى شريرة لا يعرف عنها شيئا إلا العرافون. ولذلك تمتلئ رواية (يوميات طائر الزنبرك) بشخصيات ذات قدرات روحانية تجعلهم متصلين بالغيب. فإذا كان عدد شخصيات الرواية الرئيسية عشرا، فنصفهم على الأقل بشر خارقون، يتميزون إما بالقدرة على معرفة المستقبل وقراءة الحاضر قراءة غيبية تكشف عبث القوى الروحية الشريرة به، وأهم مثالين على هذا: العرافة التى تسمى نفسها مالطا كانو والعجوز هوندا، وكلاهما وُهب القدرة على الاتصال بالغيب، وإطلاع شخصيات الرواية على شذرات منه قد تكون واضحة أو غامضة، إلا أنها دائما ما تصدق. أما الفئة الثانية من الخارقين بين شخصيات الرواية، فهم أولئك الذين يملكون القدرة على التعامل مع الخبائث الروحية السارية فى الهواء الذى نتنفسه، والتى قد تنقض فى أي لحظة على أى إنسان فتسكن روحه وجسده وتسبب له علة لا سبيل للشفاء منها أو حتى تشخيصها من قبل طبيب عادى. من هؤلاء سيدة أعمال خارقة تسمى نفسها جوزة الطيب، وعملها يتلخص فى علاج العلل التى تسببها تلك الخبائث ، وذلك بأن تمرر يدها على المناطق المعتلة من جسد المكروب ليحدث البرء المنشود. ومن هؤلاء الخارقين أيضا، تورو أوكادا، بطل الحكاية الذى كان فى أولها شخصا عاديا يعيش حياة بسيطة، إلا أنه حين وقع تدريجيا فى شبكة الشر يتخبط فى ظلمته كذبابة، أصر على استغلال تلك الظلمة فى قراءة نفسه وتأمل حياته ، واستطاع بذلك التأمل أن يُكسب ذاته قدرات روحية خارقة صار بها من كبار أطباء الروح، وأن يحقق انتصارا شخصيا محدودا على المدينة الفاسدة المليئة بالشرور الأرضية والكونية التى اكتشف أنه يحيا فيها ولم يكن يدرى شيئا عن شرها العظيم، فاستطاع فى النهاية الوصول لقطه الضائع وزوجته المختفية، وإن لم يستطع استردادها، كما تمكن من قهر غريمه وصهره رجل السياسة نوبورو واتايا، الذى اجتمع فى شخصه الشر الدنيوى مع التشوه الروحى، وانتهت الحكاية بسقوطه، وبهزيمة محدودة للخبائث التى تملأ أرض وسماء مدينة موراكامى الفاسدة. نحن هنا إزاء كتابة تجمع بين العمق والبساطة؛ بين العجائبية والواقعية؛ بين التوثيق والتشويق, فى ضفيرة فنية فريدة, ممتعة.. ومجنونة.
لمزيد من مقالات بهاء چاهين رابط دائم: