سيظل لشهر رمضان الكريم تميزه فى كل عصر وأوان فعندما يهل الشهر الكريم تأخذنى الذكريات إلى الطفولة وأول شهر أصمم على الصوم فيه رغم صغر سنى وإشفاق أمى وإلحاحها كى أفطر أو أكتفى بصوم جزء من اليوم، لكن شعورى أن جميع إخوتى صائمون كان يتغلب على الإحساس بالوهن والجوع وأنشغل فى اللعب فأنسى معاناة الصيام حتى يأتى صوت الشيخ محمد رفعت من الراديو لنتأهب لاستقبال الفطور، وروائح الطعام الشهى تنبعث من كل دار ليسيل معها لعابى، وتزيد اللهفة للحظة الفطور، وبينما الجميع فى البيت يعملون بنشاط لتجهيز الطعام، كنت مهتما بالنظر إلى مسجد الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، حتى أشاهد المؤذن قادما لرفع أذان المغرب؛ لأن قدومه علامة لقرب أهم لحظات اليوم، مستعدا مع أقرانى لضرب مدافع الإفطار الصغيرة التى كانت لعبة بدائية نلهو بها.
وتصل اللهفة إلى ذروتها عندما يتلو الشيخ محمد رفعت آخر آيات القرآن الكريم لينطلق بعده الأذان، ونحن بدورنا نسابق الريح مهللين بدعوة الصائم إلى الإفطار ونأخذ مواقعنا على مائدة الطعام الكبيرة والعامرة بكل ما لذ وطاب، حيث التمر المعد بطريقة لذيذة وعصير الليمون ومن فرط جوعى ولذة الطعام كانت أمى تتدخل وتضع أمامى منابى من اللحوم وأشهى طبق وتظل توزع الأطباق طيلة الإفطار حتى كنت أسأل متى ستأكل؟
ولا ينسينا الطعام متابعة مسلسلات رمضان الإذاعية من المسلسل الكوميدى لفؤاد المهندس وشويكار إلى ألف ليلة وليلة بصوت زوزو نبيل وفى السحور الذى يبدأ مع سماع أشعار فؤاد حداد بصوت المسحراتى سيد مكاوى الذى لا ينسينا مسحراتى البلدة الذى ينادينا بأسامينا ويدعونا لأن نصحو ونوحد الله، لنجد السحور الذى نستمتع به ونحــن نســمع أحسـن القصـص.
وكنت أظن أن سابقينا لم يهنأوا برمضان لعدم وجود الراديو الذى كان يحتل مكانة متميزة ويجعل لرمضان طعما خاصا بمسلسلاته وبرامجه وتواشيحه وقراءاته لكن أبى كان يحدثنى عن رمضان فى زمانه بمدينة قوص والذى كان لا يقل جمالا، حيث يتجمعون فى سهرات لسماع القرآن مع ألعاب ومسابقات وكانت تجمعات الحكى وسماع الملاحم الشعبية على الربابة الأكثر إقناعا.
وجاء عصر التليفزيون بفوازيره ومسلسلاته ليضفى نوعا فريدا من البهجة لأعرف أن لشهر رمضان شخصية مهما اختلف الزمان وتعاقبت الأجيال، لكن يظل الثابت فى كل أزمانه أن العائلة الكبيرة تتجمع لتناول الفطور فى أيام رمضان مهما باعدت بين أفرادها المسافات، فتكون فرصة لصلة الأرحام وتذويب أى خلافات بين الإخوة أو زوجاتهم، وتنصهر العائلات فى بوتقة التراحم والتسامح فالكل يتعاون فى إعداد الفطور، والأبناء تتوطد علاقتهم بالعائلة فتزداد الروابط قوة، وعادة مايكون الشهر الفضيل أفضل وقت لرأب أى صدع أو خلاف فعندما تجمع صلاة العشاء والتراويح الأهل والأصدقاء والجيران ويشعرون فى رحاب الله بتوحد دعائهم وابتهالاتهم، فإن كلمات المودة تذيب أى خلافات ويشعر الأطفال بأجواء المحبة والوئام وأنهم أفراد من عائلة كبيرة وتلك العائلة تجمعها روابط متينة.
هكذا ظل الشهر الفضيل زادا للوئام والتسامح والتكافل والمحبة مهما اختلف الزمن وتبدلت الأجيال بغسل القلوب بصومه وصلاته وخشوعه وإفطاره وسحوره وتوحد أهل مصر على موائد المحبة والخير النابع من تراثهم الطويل فى التوحد والتعاضد فى السراء والضراء، ولم ينجح غزاة أو جماعة جانحة عن ديننا القويم فى تغيير صفوه وبهجته، لتظل أجواؤه صافية، مليئة بالمودة والاحترام لا تعكرها ضغينة ولا أطماع، وإذا كانت مصر قد تعرضت لموجة من التشدد والتطرف، الذى حاول أن يغير من طباع أهلها وأن يبث الفرقة بين شعبها، فقد تمكنت مصر من استعادة روحها الأصيلة، لتزيح عن كاهلها تلك الجماعات الدخيلة وتتوحد أيادى أبنائها للنهوض ببلدهم، وتنفض عنها غبار الفرقة والفتن وتعوض ما فاتها وتحقق الأمن والخير لأبنائها بذخيرة لا تنفد من التقاليد الراسخة والقلوب الصافية العامرة بالمحبة والإخاء والتكافل والتسامح بباقى العائلات التى تتزاور وتتبادل العزومات، طوال الشهر الكريم، وعندما لا تكون العزومات فإن الأطباق المغطاة تروح وتجىء بين البيوت فى شراكة جماعية تشمل الجيران وهناك قائمة فى ذاكرة الأم بكل من يحتاج إلى تقديم المزيد من الأطباق من الأسر الفقيرة المتحفظة، فنكون جميعا قد تشاركنا فى تناول نفس الوجبات.
كان التكافل والتسامح أكبر ملمحين ملازمين لشهر رمضان، فهو شهر تصفية الخصومات وعقد جلسات بعد صلاة التراويح يحضرها الكبار ممن لهم كلمتهم وحكمتهم فيتولون الفصل فى أى خلاف مهما كان كبيرا ولا يفضون المجلس إلا بعد أن ينهوه بروح من الرضا والمودة وكأنها جلسات تحكيم عرفية تظللها أجواء التراحم للشهر الكريم الذى نستعيد فيه علاقات الوئام والود، ويتبارى كل طرف فى إظهار أنه الأكثر حرصا على الصلح والتسامح، ليكون له النصيب الأكبر من الثواب وتقدير الحضور.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثــابت رابط دائم: