فى العادة نؤرخ لنهاية الفلسفة الحديثة وبداية الفلسفة المعاصرة بظهور كتابات ثلاثة مفكرين: ماركس ونيتشة وفرويد. الأفكار الكبرى لكل واحد فيهم مختلفة بل ومتعارضة مع أفكار الاثنين الآخرين. وانتقل الخلاف بالطبع إلى أتباع كل منهم. ولكى نبين هذا التعارض نأخذ على سبيل المثال ماركس وفرويد. الأول يهتم بالمجتمع وما يتضمنه من جماعات متصارعة، أما الثانى فيهتم بالفرد. بالنسبة لماركس الوعى هو الذى يحرك التاريخ وبالنسبة لفرويد اللاوعى هو الذى يحدد سلوك الفرد. الفرد عند ماركس يسعى إلى تحقيق مصلحته، أما عند فرويد فيسعى إلى إشباع رغباته. عند فرويد المرحلة المهمة فى حياة الفرد هى سنواته الست الأولى، أما عند ماركس فلا يصير الفرد ذا أهمية إلا بعد أن ينتهى مساره التعليمى ويحتل موقعاً فى عملية الإنتاج.
ومع ذلك كان الجمع بينهما هو السمة التى تميز الإنتاج الفكرى المتنوع والمهم لمعهد البحوث الاجتماعية والذى عرف فيما بعد باسم مدرسة فرانكفورت. فى إطار التصور الماركسى التقليدى إذا سألنا لماذا يحتج العمال تكون الإجابة لأنهم مستغَلون، فى حين يرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن السؤال الجدير بالطرح هو:لماذا، رغم أنهم مستغَلون لا يحتجون؟ هذا سؤال يخص مرحلة الرأسمالية المتأخرة المختلفة عن مرحلة الرأسمالية المتوحشة التى كانت على أيام ماركس. ولا سبيل للإجابة عن هذا السؤال الجديد إلا بالرجوع إلى فرويد والجمع بينه وبين النقد الماركسى للرأسمالية.
كان الهدف من تأسيس هذا المعهد هو انتزاع الاعتراف الأكاديمى بالفلسفة الماركسية وأيضاً تطوير مناهج بحث تسمح بالجمع بين مجالات مختلفة مثل الفلسفة وعلم النفسوالاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع والفن والإعلام . يشير بيان تأسيس المعهد إلى أن مؤسسين يهدفون إلى الدفاع عما يسمونه النظرية النقدية. وهذه التسمية تشير إلى أن الهدف ليس هو إنتاج معارف جديدة ولكنه بالأحرى نقد للمعارف السائدة. وتشير أيضاً إلى أنهم لا يهتمون بالمشكلات الميتافيزيقية المجردة فى الفلسفة التقليدية وإنما ينظرون إلى الواقع الاجتماعى بحثاً عن تجليات اغتراب الإنسان المعاصر والبحث عن سبل التحرر الإنسانى منها. أسماء مثل ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو ووالتر بنيامين وهربرت ماركيوز وإريك فروم ويورجن هابرماس كلها تنضوى تحت راية هذه المدرسة. وعند وصول هتلر إلى السلطة تركوا ألمانيا وانتقل أغلبهم إلى الولايات المتحدة، وهناك تعرفوا على المجتمع الصناعى فى أعلى مراحله وتمسكوا فى رؤيتهم له بنفس المفهوم النقدى فقدموا كتابات تمثل إضافة بالنسبة لما انتجوه فى واقعهم الأوروبى. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عاد هوركهايمر وأدورنو إلى ألمانيا وبقى ماركيوز فى الولايات المتحدة.
الجمع بين الماركسية والفرويدية جعل مدرسة فرانكفورت تطرح مجموعة من الموضوعات المهمة التى انشغل بها الفكر الإنسانى المعاصر منها نقد النزعة التسلطية والتى لا تكون مقصورة على السياسة الموجودة فى العائلة وفى المدرسة ومواقع العمل. ومنها أيضا نقد المجتمع الاستهلاكى. يقول ماركيوز واصفاً هذه الصيغة الجديدة للمجتمع: يتعرف الناس على أنفسهم فى السلع، يجدون روحهم فى السيارة وفى بيتهم الدوبلكس وأجهزة المطبخ.واهتم المفكرون بنقد التكنولوجيا والبحث عن التوافق مع الطبيعة.كما نادوا بالتحرر الفردى والذى يدفع الفرد إلى أن يواجه ذاته أولاً قبل أن يواجه أنظمة القهر الخارجة عنه. ونددوا بالتلاعب الثقافى والإعلامى الذى يجعل جماهير الشعب تنحاز بحماس للنازية والفاشية رغم أنها تعمل ضد مصالحهم.
كانت أفكار مدرسة فرانكفورت ملهمة لتمردات الشباب فى الستينيات. وربما يبدو للناظر إلى المشهد الفكرى المعاصر أن مجدها آخذ فى الأفول. ولكن واقع الحال يبين عكس ذلك فالمدير الحالى للمعهد وهو أكسل هونت صاحب نظرية الكفاح من أجل الاعتراف وتتعلق بإدارة التعايش بين المكونات المتنوعة للمجتمع والأخلاق التى تدعم الاعتراف المتبادل فى مستوياته الثلاثة: العاطفى والقانونى والثقافى. ومن ممثلى المدرسة الفيلسوف الشاب نسبيا هارتموت روزا يبلور نقدا لما يسميه التسارع الاجتماعى، ويقسمه إلى ثلاثة أنواع: التسارع التقنى ويتمثل فى سرعة الانتقال وتقليل المسافة، وتسارع التغيرات الاجتماعية ويتمثل فى التغير السريع للعادات والقيم والموضات، وتسارع إيقاع الحياة وهو الذى يغذى الشعور بأنه رغم السرعة الشديدة ليس لدينا وقت. ويطرح فى مواجهة ذلك ضرورة البحث عن أسلوب جديد فى الحياة. وهكذا نجد أن التطورات التى يزخر بها عالمنا المعاصر تنفخ فى روح مدرسة فرانكفورت الحياة.
لمزيد من مقالات د. أنور مغيث رابط دائم: