رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصر تسترد أصواتها

بعد أكثر من ثلاثين عاما، عاد المصريون الى قرائهم، وبعد أن احتلت الأصوات الوافدة مساحات شاسعة من وجدان الناس، بدأت تهل علينا مرة أخرى نسائم مدرسة التلاوة المصرية برموزها الذين غمروا العالم الإسلامى بالعذوبة والرقة والخشوع لأكثر من قرن من الزمان، وهذه المدرسة (كما يؤكد المتخصصون) تتميز بعدة ميزات، بينها الدقة الشديدة فى تطبيق أحكام التجويد، ومراعاة مواضع الوقف والابتداء المتفق عليها بين علماء القراءات، فضلا عن مقادير المد والغُنة، والمساواة بين النظائر، وإحكام مخارج الحروف، واستيفاء ما لكل حرف من صفات، كالجهر والهمس، والشدة والرخاوة وما إلى ذلك.

عاد الناس إلى محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وأبو العينين شعيشع والصيفى ومحمد سلامة والشعشاعى والفشنى وعلى محمود ومحمود على البنا وعبد الباسط والحصرى وغلوش والبهتيمى وعشرات غيرهم، عادوا إلى الفطرة النقية والصفاء والطيبة والعذوبة، عادوا بدون اتفاق، لحاجتهم إلى الرجوع إلى النبع الصافى، وبعد أن توارى داعمو الأصوات البكاءة، لا يوجد موقف من قراء غير مصريين لا سمح الله، ولكن الصرامة التى اعتمد بها القارئ المصرى منذ بدايات الإذاعة وحتى الآن تجعلك تطمئن، هذه الصرامة التى جعلت الشيخ المبدع محمد محمود الطبلاوى (الذى رحل وهو نقيب للقراء) يتقدم تسع مرات ولا يتم اعتماده، وأيضا بسبب المشارب المتنوعة التى جاء منها كل قارئ، فبخلاف الدلتا التى جاء منها أعظم الأصوات، يوجد المنشاوية وعبدالباسط عبدالصمد والفشنى وأحمد الرزيقى وغيرهم الذين جاءوا بأجمل ما يحمله وجدان صعيد مصر، وهناك أبو الوفا الصعيدى من أسوان.

اختلاف البيئة وطرائق التعليم والتنوع الجغرافى والثقافى شكلت جميعا مدرسة حقيقية ساهمت فى انسجام المجتمع، وجعلت كل هؤلاء يعبرون عن مصر المتسامحة الطيبة التى تنصت إلى كلام الله وهى فى حالة سلام وطمأنينة، هذه المدرسة العظيمة كان سبب ازدهارها تاريخيا انتشار الكتاتيب حتى منتصف سبعينيات القرن الماضى، وهى المرحلة التى شهدت خروج العمالة المصرية سعيا إلى الرزق خارج بلدهم، وعادوا بعادات جديدة وأجهزة كاسيت وقراء مختلفين، وكان هناك من يدعم هذا التوجه وينفق عليه.

عودة المصريين لمقرئيهم مؤخرا جاء نتيجة لابتعاد المتطرفين عن المشهد، وأيضا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعى وتزايد أعداد السميعة بين الشباب، وأيضا بسبب الحالة الجيدة التى تشهدها إذاعة القرآن الكريم فى الفترة الأخيرة، لقد كان لمدرستنا تلاميذ ومقلدون فى كل أنحاء العالم العربى والإسلامى، من بغداد إلى طنجة، ومن حلب إلى أم درمان، ومن أشهر القرّاء العرب الذين تأثروا بالمدرسة المصرية فى التلاوة، الشيخ التونسى على البرّاق، الذى قال عنه طه حسين عند زيارته لتونس إبان استقلالها: إن صوته يعيدنا إلى الزمن الأول لنزول القرآن، ومن القرّاء العرب الذين تأثروا بالمدرسة المصرية، أيضاً، القارئ الليبى محمد جمعة زوبى، الذى درس فى الأزهر الشريف، وأكمل حفظ القرآن فيه، وأتقن تجويده على أيدى مشايخ مصريين. وكان زوبى يُجود القرآن الكريم فى الديوان الملكى الليبى فى شهر رمضان، مع عدد من القراء المصريين منهم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد والشيخ عبدالمنعم الطوخى، كما تتلمذ عدد كبير من القرّاء العرب، وغير العرب، على أيدى مشايخ ومقرئين مصريين، سواء بالأخذ عنهم مباشرة، أو بالسماع، ومن هؤلاء القارئ الإيرانى المشهور جواد فروغى، والصومالى عبدالرشيد صوفى، والعراقى رعد الكردى، بالإضافة إلى القراء السعوديين عبدالصمد فدا وعبدالله خياط وعبدالفتاح قارى وعبدالله الخليفى، ومحمد شرف الحلوانى وغيرهم.

تمتلك الإذاعة المصرية تراثا لا مثيل له فى العالم، ولكنها رغم اشادتى بها هذه الأيام، تكتفى بإذاعة تسجيلات النجوم المشهورين فقط، فى حين أننا نملك أصواتا من الرعيلين الأول والثانى لا تقل عن المشاهير فى الرقة والجودة، وبعضهم شهد نجومية عظيمة فى زمنه، فمثلا نادرا ما يطل علينا صوت الشيخ شعبان الصياد، وهو قارئ عظيم، والوحيد من المقرئين حسب علمى الحاصل على شهادة العالمية من الأزهر (التى تعادل الدكتوراه)، وهو الذى أطلق عليه عدة ألقاب بينها: صياد القلوب وعالم القراء، وأطلق عليه المطرب الكبير محمد عبدالمطلب ملك الفجر، وهو الذى اختاره الزعيم جمال عبد الناصر بالاسم ليقرأ فى عزاء والده سنة 1965، وعندك أيضا عبدالعظيم زاهر أحد أعذب الأصوات فى تاريخ التلاوة، وأيضا عبدالرحمن الدروى الذى تتلمذ على يد عبدالفتاح الشعشاعى صاحب النبرة الشجية التى جعلته مدرسة وحده، والذى ظلم فى حياته، مثله مثل الشيخ عبدالعزيز على فرج ومحمود عبدالحكم ومحمد بدر حسين والشحات محمد أنور ومحمد أحمد شبيب، لكل واحد طريقة ونبرة، وصنعوا معا هيبة لمدرسة التلاوة، معظمهم سافر لكل بقاع الأرض وأبدع وكان سفيرا لعذوبة المصريين وتعاملهم مع كتاب الله العزيز، ولهم تسجيلات غزيرة تحتاج إلى من يبحث عنها ويقدمها للناس من جديد، كل واحد من هذه المدرسة صاحب مسيرة عظيمة تستحق أن يجلس اليها عشاق فن التلاوة وعشاق البشر الأنقياء، توجد فى الأجيال الجديدة أصوات جميلة ومبشرة لا شك، ونحتاجهم ونحتاج عشرات آخرين مثلهم .. أكثر من أى وقت مضى، لأن الذين قالوا: «نزل القرآن فى مكة وكتب فى اسطنبول وقرئ فى مصر» .. كانوا على صواب.


لمزيد من مقالات إبراهيم داود

رابط دائم: