مازلت اسأل عن نهضتنا الحديثة من أين جاءت دون أن أصل إلى جواب، والسؤال ملح، لأن النهضة تحققت على نحو يصعب معه أن نعرف من أين بدأت؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟.
لقد فتحنا عيوننا بعد أن خرجنا من ليلنا الطويل الذى جثم على صدورنا قرونا وقرونا، فرأينا النهضة أمامنا كأنها هبطت على حين غرة، أو كأنها كانت موجودة، ونحن لا نراها.
خرجنا من القرن الثامن عشر، وكل ما حولنا حطام فى حطام وفوضى وظلام، لا أمن، ولا استقرار، ولا قانون، ولا عدل، ولا عقل، ولا حرية.. ولا أمل، ثم لم تكد تمر ثلاثون عاما، وهى فى تاريخنا طرفة عين، حتى رأينا النهضة ماثلة مضيئة، تنمو وتهتز وتورق وتزهر وتثمر، ليس فى ميدان واحد، بل فى مختلف الميادين.
هذه المعجزة لابد من تفسيرها، لأننا لا نستطيع أن نواصل المسيرة التى لابد أن نواصلها لنستكمل ما بدأناه، ونحقق ما تمنيناه إلا إذا عرفنا من أين بدأنا، ودون أن نعرف البداية سنتوه ونسير على غير هدى، وسنفقد حتى وعينا بأنفسنا، لأننا نحقق أنفسنا ونوجد بما نعرفه ونختاره ونعيشه، وقد رأينا أن وعينا الجماعى أو القومى بأنفسنا خلال القرنين الماضيين لم يكن دائما واضحا أو مستقرا فى نظر الجميع، ولايزال كذلك إلى اليوم.
فنحن إلى قيام الحرب العالمية الأولى نجمع بين الانتماء للوطن والانتماء للدين ونخلط بينهما، فنعتبر أنفسنا عثمانيين، ولم يصبح الانتماء للوطن عقيدة إلا فى ثورة 1919 ثم تعددت الانتماءات بعد ذلك واختلط الانتماء للوطن بالانتماء للدين والانتماء للغة والثقافة، والسبب الرئيسى فى نظرى هو أن رؤيتنا لمصادر نهضتنا الحديثة غير واضحة، وأستطيع أن أقول ان النهضة لم تعد قضيتنا فى هذه الأيام، وأنها لم تعد تحتل المكان الذى كانت تحتله فى القرن الماضى، وربما ظن البعض أن النهضة عصر أو مرحلة من الزمن بدأت عندنا وانتهت، فلم نعد محتاجين للتفكير فيها أو للحديث عنها، خاصة والجانب الفكرى فى النهضة جانب أساسى تهتم به النخبة المثقفة، والذين لا يلتفتون اليه ليسوا قليلين، ولهذا تروج الدعوة للاهتمام بالمشكلات العملية وحلها، ولكن كيف؟ المشكلات العملية لا تحل إلا بالتفكير، بالتنمية الاقتصادية، بالتصنيع، وبالعلم، وبالديمقراطية، وإيقاظ الشعور بالانتماء للوطن والاعتزاز بتاريخه وحضارته، كيف يمكن الفصل بين الفكر والعمل؟ لا يمكن! ونحن إذن فى أشد الحاجة للفكر الذى يمكننا من العمل ويساعدنا فى حل ما نواجهه فى حياتنا اليومية، باختصار، نحن فى أشد الحاجة لاستكمال ما أنجزناه فى النهضة والوصول إلى ما نرجوه منها، الحرية، والرخاء، والاستنارة، والعقلانية، ويقظة الضمير، ولكى نستكمل ما أنجزناه فى نهضتنا الحديثة، علينا أن نعرف ما انجزناه منذ بدأناها حتى اليوم لنعرف ما لم ننجزه بعد، ومن هنا السؤال الذى أبحث له عن جواب: من أين جاءت النهضة؟ لقد بدأناها مع محمد على فى العقود الأولى من القرن التاسع عشر. فمن المنطقى أن نبحث عن مصادرها فى القرن الثامن عشر.
لكننا رأينا أن القرن الثامن عشر كان ليلا حالكا، وكان خرابا يبابا وانتهى بالحملة الفرنسية التى يرى فريق منا أنها هى الصدمة التى أيقظت المصريين، وهى النموذج الذى استلهموه حين بدأوا نهضتهم، فعن طريقها رأى المصريون العالم بعد قرون من الانقطاع والعزلة، تخلفوا فيها كثيرا، وتقدم فيها الآخرون كثيرا، وعن طريق الحملة الفرنسية عرف المصريون معنى الوطن، والأمة، ومعنى الحرية والمساواة، ومعنى الديمقراطية وتمثيل الأمة والانتخاب، وعن طريق الحملة الفرنسية رأى المصريون كيف تحررت المرأة، ورأوا صورا من التقدم العلمى والفنى، وقارنوا بين ما كانوا وما أصبح فيه الآخرون، وتمنوا لو أنهم امتلكوا ما امتلكه هؤلاء الغزاة وباستطاعتنا إذن أن نقول: نعم، الحملة الفرنسية، كانت صدمة، وكانت صورة لحضارة جديدة تمنى المصريون أن يشاركوا فيها، لكن الفرنسيين ظلوا مع هذا غزاة، وظل المصريون يقاومونهم، ولهذا لا نستطيع أن نقول إن النهضة المصرية بدأت بالحملة الفرنسية، أو أن هذه الحملة هى المصدر الذى جاءت منه النهضة المصرية التى لابد أنها كانت حلما يراود المصريين قبل أن يدخل الفرنسيون مصر، وهذا هو سر اعجاب المصريين بما رأوه لدى هؤلاء واعترافهم بتقدمهم.
هذا إلا أن اعترافنا فى المقابل بما وصلنا اليه فى القرن الثامن عشر من تخلف وما كنا نتخبط فيه تحت حكم المماليك والاتراك من ظلمة وجهالة، وفوضى وطغيان ـ اعترافنا بهذا لا يصح أن يحجب عنا علامات توحى بأن نهضة أو يقظة فى طريقها للظهور، من هذه العلامات المحاولة التى قام بها على بك الكبير لتحرير مصر من تبعيتها للعثمانيين والعودة بها دولة مستقلة، كما كانت قبل أن يدخلها سليم الأول، ويضمها لسلطنته ويحول نفسه إلى خليفة!.
وكان على بك الكبير مملوكا ترقى وأصبح شيخا للبلد.. وكان شجاعا طموحا يحب القراءة، ويجتمع بعلماء عصره، فبسط سلطانه على غيره من المماليك، وضرب على أيدى اللصوص والمرتشين وقطاع الطرق، فساد النظام والأمن وراجت التجارة ووقعت المعاهدات مع بعض الدول الأوروبية، ووجد على بك نفسه، وقد نال ثقة المصريين، وأصبح وحده صاحب الكلمة فأعلن استقلاله بمصر عام 1769 وأوقف دفع الجزية، وضرب النقود باسمه، وأرسل جيشه إلى الحجاز فضمه لمصر، ثم ارسله إلى الشام فدخلها، لكن قائد الجيش محمد أبا الذهب تآمر مع العثمانيين، وعاد بالجيش إلى مصر ليحارب سيده ويوقعه فى الأسر، ويصبح واليا مكافأة له على خيانته حين عادت مصر، بعد أربع سنوات من الاستقلال، ولاية عثمانية، غير أن خيانة أبى الذهب لم تمنع مصر من أن تنهض وتستقل، إذ لم يمض إلا ربع قرن وتوالت الأحداث التى أيقظت المصريين، وفتحت للنهضة المصرية كل الأبواب، حملة بونابرت، وقدوم محمد على الذى فرضه المصريون على السلطان العثمانى واليا على مصر، فوجد نفسه يواصل المشروع الذى بدأه على بك الكبير، وهكذا نهضت مصر واستقلت وخرجت من عصور الظلام لتدخل عصر الحرية والنور.
لمزيد من مقالات ◀ أحمد عبدالمعطى حجازى رابط دائم: