نتطلع جميعًا إلى تعميق الصناعة باعتبارها الحلقة الرئيسية فى تحقيق طفرة تنموية فى بلادنا والسير فى طريق التنمية المُستدامة. ويتطلب تحقيق ذلك دراسة استراتيجيات التنمية الصناعية السابقة فى مصر، ومعرفة جوانب الخلل والقصور فيها مما جعلها لا تؤتى ثمارها. وكذلك دراسة تلك الاستراتيجيات فى الدول والاستفادة من دروسها، حتى نتمكن من الدخول فى مضمار الصناعة المُتقدمة، والمشاركة فى الثورة الصناعية الرابعة.
وبحكم تخصصُى فإننى لا أستطيع مناقشة الجوانب الفنية للتنمية الصناعية، ولكن ما أريد إثارته هو مدى وجود استراتيجية للتنمية الصناعية فى مصر، والمبادئ أو الأسس التى يجب أن تستند إليها هذه الاستراتيجية فى ضوء خبرات الآخرين وتجاربهم.
أول هذه الأُسس أن أى استراتيجية سواء فى مجال التنمية الصناعية أو غيرها لا بد أن ينبثق عنها خطط محددة وبرامج تنفيذية يكون لها مؤشرات كمية حتى يُمكن مُتابعة تنفيذها وتقييم نتائجها. ويعنى ذلك أن كل هدف من أهداف الاستراتيجية ينبغى أن يوضع له الخُطط والبرامج، والمؤشرات اللازمة لقياسه، والجهة المسئولة عن تنفيذه، والتمويل المخصص له، والمدة الزمنية اللازمة للتنفيذ. وذلك حتى يمكن المتابعة وتقييم ما إذا كان تنفيذ الخطط يُحقق الهدف الوارد فى الاستراتيجية أم لا، ثُم اتخاذ الإجراءات لتصحيح المسار. والحقيقة، أنه بهذا المعنى فإن كثيرًا من الوثائق التى يُطلق عليها إعلاميًا لفظ الاستراتيجية هى ليست كذلك. لأنها تقتصرُ على الأهداف المُبتغاة دون ذكر للعناصر الأخرى. ولذلك، يصبح من الصعب للغاية مُتابعة تنفيذها وتقييمها.
وثانيها، أن استراتيجية التنمية الصناعية ترتبطُ بمجالات اقتصادية واجتماعية عديدة، وهى مجالات تتعدى سلطة واختصاص الجهة المسئولة عن تنفيذ الاستراتيجية وهى وزارة التجارة والصناعة. مما يستلزم وجود الإطار المؤسسى الذى يُحقق التنسيق بين سياسات التنمية الصناعية المتبعة من ناحية ومجمل السياسات العامة من ناحية أُخرى كالإنفاق الحكومى والسياسة المالية، والزراعة، والتعليم والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى، وسياسات تشجيع الابتكار وريادة الأعمال، واستراتيجية التنمية المحلية. ودون هذا التعاون والتنسيق، فلا تستطيع أى وزارة للصناعة النجاح فى عملها فى أى دولة. ذلك أن تطبيق استراتيجية التنمية الصناعية هى مسئولية الحكومة وليست وزارة بعينها. والتنمية الصناعية هى نتيجة تفاعُل عدد من السياسات فى عديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية يكون من شأنها إحداث الطفرة التنموية.
وثالثها، التكامل والتداخل، وذلك علىأكثر من مستوى، أبرزها، مستوى العلاقة بين المحاور التى تشملها استراتيجية التنمية الصناعية، والترابط بين الأهداف الكلية والقطاعية والجزئية أى على مستوى المصنع أو المنشأة الاقتصادية. فمع أن استراتيجية التنمية الصناعية تتم على مستوى الاقتصاد الكلى، فإن تنفيذها يتم على المُستوى القطاعى والجزئى. ومنها مُستوى التكامُل بين مُختلف المحاور التى تشملها استراتيجية التنمية الصناعية والتكامُل بين سياسات التنمية الصناعية وغيرها من السياسات كما أشرت سلفًا.
ورابعها، المرونة والقدرة على التكيُف مع التغيرات الاقتصادية العالمية والإقليمية والتى تلقُى بظلالها على الاقتصاد الوطنى، وأن تستند هذه المرونة إلى بيانات ومعلومات صحيحة وحديثة ومفصلة من خلال متابعة تنفيذ محاور الاستراتيجية.
ويشير البحث الذى أصدره المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى فبراير 2021 بعنوان وضع استراتيجية التنمية الصناعية المصرية على أسس سليمة: الاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا، انه بتطبيق هذه المعايير على وثائق التنمية الصناعية فى مصر نجد أنها تفتقد عددًا من هذه الأسس، فهى لا تتضمن معايير للمتابعة المرحلية ومراجعة الخطط والبرامج التنفيذية، مما جعلها لا تتمتع بالمرونة اللازمة.ومع أنها تشمل أغلب المحاور التى ترد عادة فى استراتيجيات التنمية الصناعية، إلا أنها أغفلت بعضها كما أنها لا تشمل كل الموضوعات التى تندرج فى كُل محور،واقتصرت على تلك التى تدخل ضمن الاختصاص القانونى لوزارة التجارة والصناعة. أضف إلى ذلك، وجود ضعف بالغ فى تحديد الاستراتيجيات القطاعية، وعدم تحديد التشابكات والتداخلات بين المحاور وتأثير ما يتحقق فى كل منها على المحاور الأخرى.
فضلا عن غياب الترابط بين الاستراتيجية والاستراتيجيات التنموية الأخرى التى تتبناها الدولة خاصة التعليم الفنى والبحث العلمى والتدريب المهنى، والتنمية الزراعية والمعدنية.يضاف إلى ذلك، عدم ارتباط التمويل المتاح بأهداف الاستراتيجية والأولويات القطاعية، وعدم استمرارية التمويل المتاح لبعض البرامج مما يؤثر سلبيا على فعاليتها.
جدير بالذكر أنه تم الانتهاء من تنفيذ استراتيجية التنمية الصناعية عام 2020. ومن الأرجح أن الحكومة تعمل على وضع استراتيجية جديدة للتنمية الصناعية، وأنها سوف تأخذ فى اعتبارها جوانب القصور التى تم الإشارة اليها. والمطلوب، استراتيجية تنمية صناعية تلتزم بها الحكومة وليس فقط وزارة التجارة والصناعة، وأن تقود إلى تحقيق الأهداف التى حددتها رؤية مصر 2030، وأن تمثل الإطار الحاكم لكل السياسات والخُطط والبرامج التى تؤثر على التنمية الصناعية بشكل مباشر أو غير مباشر. وباختصار، فإن المطلوب هو استراتيجية شاملة لأوضاع التنمية الصناعية فى مصر استراتيجية تتجاوز الحلول الجزئية أو الوقتية وترسم مسارًا ثابتًا لمستقبل مِصر.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: