هناك من الشواهد فى السنوات القليلة الماضية ما يؤكد استمرار اهتمام الدولة بقضية تعميق الصناعة فى مصر، من ذلك مثلا زيادة الحوافز للاستثمار الصناعى، وإنشاء المُجمعات والمدن الصناعية، وتيسير إجراءات منح التراخيص الصناعية، وإطلاق أول خريطة للاستثمار الصناعى، وتشجيع الابتكار الصناعى. وعزز من ذلك، تطوير البنية التحتية المُشجِعة للصناعة كالكهرباء وشبكة الطرق.
ومن ذلك أيضًا، إشارات الرئيس عبدالفتاح السيسى المُتكررة إلى ضرورة توطين الصناعة والتكنولوجيا المُتقدمة فى مصر، ومتابعة د. مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء تنفيذ 100 إجراء تحفيزى للنهوض بالقطاع الصناعى.
وكان من شأن ما تقدم، ازدياد معدل نمو القطاع الصناعى وحجم الاستثمارات الموجهة إليه، وزيادة قيمة الصادرات الصناعية عام 2021. ويمثل هذا الإنجاز بداية طريق طويل وصعب حتى تتمكن مصر من تحقيق نهضتها الصناعية، وذلك من خلال تطبيق استراتيجية متكاملة للتنمية الصناعية.
ويقصد باستراتيجية التنمية الصناعية، منظومة السياسات الحكومية التى تستهدف إحداث تحول هيكلى فى أنشطة قطاع الصناعة التحويلية وما يرتبط به من خدمات.
ويعنى ذلك، أن استراتيجية التنمية الصناعية فى أى دولة، عادة ما تشمل العديد من القطاعات التى لا تدخل مباشرة ضمن مسئولية وزارة الصناعة.
وعلى سبيل المثال، فإن سياسات التعليم وبالذات التعليم الفنى، والبحث العلمى، والاستثمار، والمالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنجاح تنفيذ هذه الاستراتيجية.
تبرز أهمية الصناعة مع ازدياد الاهتمام بهدف القضاء على الفقر وتحقيق الرفاهية الاجتماعية لعموم الناس وضمان التنمية المستدامة.
فالصناعة هى «مُحرك» أو «موتور» التقدم الاقتصادى السريع والتى تمكن من تحقيق طفرات تنموية. وإذا ما نظرنا فى قائمة الدول المُتقدمة فى العالم، فسوف نجد أنها جميعا من الدول الصناعية.
ثم إن الصناعة هى التى تحقق القيمة المضافة من خلال تحويل المادة إلى سِلع ومُنتجات. ثُم إن الصناعة ليست قطاعًا منعزلًا، وإنما تُوجدُ مجموعة من الترابطات والتشابكات التى تجمعها بمختلف قطاعات الاقتصاد كالزراعة والتعدين والخدمات.لذلك، فإن تقدم القطاع الصناعى كالتحول من الصناعة كثيفة العمالة إلى تلك كثيفة التكنولوجيا المتقدمة يؤثر على مجمل أداء الاقتصاد.
ونُسجل أن مصر من الدول التى دخلت مضمار الصناعة مبكرًا، وشهدت فى النصف الأول من القرن التاسع عشر تجربة صناعية رائدة فى عهد محمد على باشا، ثم تجربة ثانية بدأت بذرتها مع تشكيل لجنة التجارة والصناعة عام 1915، ثُم رابطة الصناعات فى مصر عام 1922 وتبلورت على يد طلعت حرب وتشجيع الصناعة المصرية، ثم تجربة ثالثة فى النصف الثانى من القرن العشرين بعد ثورة 1952 فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
ولكن هذه التجارب تعرضت للانتكاسة ولم تحقق النهضة الصناعية المأمولة لأسباب داخلية وخارجية تخرج عن حدود هذا المقال. المهم أنه منذ حقبة الستينيات من القرن الماضى، أعلنت الحكومة العديد من مشروعات وخطط التنمية الصناعية، التى استهدفت تعميق الصناعة التحويلية. ولكنها لم تحقق أهدافها، واستمر إسهام هذا القطاع فى اجمالى الناتج المحلى يتراوح بين 15و17% فى الأربعين عامًا الأخيرة، ويتركز فى الصناعات الاستهلاكية والوسيطة. ولابد من التوقف ومحاولة تفسير ذلك، خاصة وأننا فى مرحلة تسعى فيها الدولة إلى الإسراع بمعدلات النمو الصناعى.
حدث ذلك ــ حسب دراسة أعدها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى فبراير 2021ــ أن استراتيجيات التنمية الصناعية السابقة اتسمت بالعمومية وعدم تحديد الأولويات بشكل واضح، مما انتهى بها فى التنفيذ لأن تكون مجموعة من الإجراءات والمشروعات المتفرقة التى لا تنتظم فى استراتيجية واحدة، ومن ثم لم تُحدِث الأثر التراكمى المطلوب والاختراق المنشود.
وهناك سبب آخر يرجع إلى تغيير السياسات مع تغير الوزير المسئول، مما ترتب عليه توقف تنفيذ الاستراتيجية قبل تحقيق أهدافها، والبدء من نقطة الصفر، وكانت النتيجة ان ظلت مصر أسيرة المرحلة الأولى من التصنيع.
وتعتبر استراتيجية وزارة التجارة والصناعة لتعزيز التنمية الصناعية والتجارة الخارجية 2016-2020, التى صدرت فى فترة تولى المهندس طارق قابيل للوزارة، هى آخر وثيقة حكومية مُعلنة فى هذا الشأن والتى اشتملت على ستة محاور استراتيجية أساسية، هي: التنمية الصناعية، وتعزيز التجارة الخارجية، وتطوير منظومة التعليم الفنى والتدريب المهنى، وتنمية المشروعات الصغيرة، وتحسين بيئة الأعمال، وإعادة هيكلة شركات قطاع الأعمال العام.
ورصد البحث وجود اختلافات فى التفاصيل بين ما ورد فى هذه الوثيقة والخطة الخمسية متوسطة المدى للتنمية المستدامة 2018/2019-2021/2022، وكذلك مع الخطة السنوية الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتى هى بمثابة الخطة التنفيذية السنوية للبرامج المُحددة فى الخطة الخمسية.
وعلى سبيل المثال، فقد تضمنت الخطة الخمسية عددا من البرامج التى لا يوجد إشارة لها فى الخطة السنوية. وعلى العكس، فقد تضمنت الخطة السنوية بعض العناصر التى لا وجود لها فى الخطة الخمسية. فضلا عن وجود اختلافات فى عرض مؤشرات التنفيذ والأداء الخاصة بكل محور من محاور الاستراتيجية، فبينما وردت مؤشرات كمية محددة فى بعضها، فقد اتسمت الأخرى بالعمومية وغياب الإشارة إلى مؤشرات الأداء.
وأدى ذلك إلى صعوبة متابعة برامج التنفيذ وتحديد ماتم تحقيقه على أرض الواقع وتقييمه وفقا لأهداف الاستراتيجية. أضف إلى هذا، أن ما يتم تنفيذه لا يؤدى إلى تحقيق الأهداف التى حددتها رؤية مصر 2030 لمستقبل القطاع الصناعى.
وكل ذلك يعنى أن هناك مشكلة أو خللا فنيا فى عملية تحديد أُسس الاستراتيجية ومؤشرات تنفيذها مما يُعنى عدم إمكانية متابعة تنفيذها وتقييم نتائجها.
ولنا عودة لهذا الموضوع إن شاء الله.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: