لا بد أن نتوقف أمام البيان الروسى الصينى المُشترك الذى صدر يوم 4 فبراير 2022، وأن نجتهد بالبحث والتفكير فى مضمونه ودلالته وتوقيته. تم الإعلان عن البيان عقب مباحثات بين الرئيسين الروسى بوتين والصينى شين جين بينج غداة افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فى بكين، وفى قلب أجواء التوتر المُتصاعد بين روسيا من ناحية وأمريكا وحلف الأطلنطى من ناحية أخرى بشأن أوكرانيا وتوسع الحلف فى شرق أوروبا.
من حيث الشكل، لم يتخذ البيان شكل الجمل والفقرات المُرسلة وانما صدر فى شكل نقاط محددة، وجاءت الصياغات واضحة وحاسمة ولا لبس فيها. ومن حيث المضمون، شملت هذه النقاط دائرة واسعة من الموضوعات الخاصة بالنظام الدولى وبالعلاقات الثُنائية بين البلدين، مما يعنى أنه تم إعداده على فترة زمنية ممتدة من قبل زيارة بوتين للصين، وانتظر البلدان التوقيت المُناسب للإعلان عنه.
أفصح البيان عن أن البلدين تجمعهما استراتيجية عميقة ودعم متبادل فى مواجهة الأزمات والتوترات مع أمريكا والدول الغربية. ويُمكن اعتباره إعلانً امن الدولتين بأن العلاقات الدولية قد دخلت حقبة جديدة تأسيسًا على التطورات العميقة التى شهدها العالم والتى حددها البيان فى تعددية الأقطاب، ونشوء مُجتمع المعلومات، والحوكمة الدولية، والتعددية الثقافية، والعولمة الاقتصادية. وذلك إضافة إلى الأزمة الصحية العالمية التى سببها انتشار جائحة كورونا. وأن كُل هذا يدعو إلى ضرورة وجود حوار مُستمر بين كل الدول للوصول إلى فهم مُشترك وبناء الثقة المُتبادلة بينها، واحترام حق الشعوب فى تقرير مصيرها واختيار نهج التنمية المُناسب لها فى إطار دور رئيسى للأمم المُتحدة ومجلس الأمن وأجندة 2030.
بدأ البيان بتأكيد الدولتين أن الديمُقراطية هى قيمة سامية لدى كُل الشعوب، مما يجعل الدفاع عنها مسئولية المُجتمع الدولى بأكمله. ومن ثَم، فإنه لا يجوز لبعض الدول أن تفرض مفهومها عن الديمُقراطية على بقية العالم. وفى هذا نقد لتصريحات بايدن المُتكررة بشأن دور أمريكا فى الدفاع عن الديمُقراطية، وأن الصراع الراهن فى العالم هو بين النظم الديمُقراطية والسُلطوية. ثُم دعوته لمؤتمر عن الديمُقراطية تم توجيه الدعوة فيه إلى الدول التى اعتبرتها واشنطن دولًا ديمُقراطية. أكدت الدولتان التزامهما بقواعد النظام الدولى الذى تقوم فيه الأمم المُتحدة بدور أساسى وإنشاء علاقات دولية جديدة تقوم على الاحترام المُتبادل والتعايش السلمي، وضرورة توفير الشروط اللازمة لتحقيق التنمية العلمية والتكنولوجية لكل الدول دون تمييز، وأن أمن دول العالم كُل مُترابط فلا يجوز لدولة تحقيق أمنها بتهديد أمن الآخرين. ويترتب على ذلك أنه على المجتمع الدولى المُشاركة الفعالة فى الحوكمة الدولية وذلك حتى يتحقق الأمن الدولى الشامل والمُستدام. أدانت كُل من الصين وروسيا الإرهاب. واقترح البيان تشكيل جبهة عالمية لمواجهته تقوم فيها الأمم المُتحدة بدور رئيسى وفى هذا انتقاد لقيادة أمريكا للتحالف الدولى ضد داعش وفى دعوتها بعض الدول دون غيرها للمُشاركة فيه، ورفضها أن يكون ضد كُل التنظيمات الإرهابية. عارض البلدان الثورات المُلونة وهو التعبير الغربى السائد للإشارة إلى التغييرات فى نظم الحكم مثلما حدث فى صربيا وأوكرانيا وجورجيا تحت تأثير انتفاضات شعبية وتعهدا بالعمل سويًا فى هذا الشأن. ترفض الدولتان هذا المفهوم وتعتبران أن هذه التحركات الشعبية كانت مُخططة وبتحريض من الدول الغربية للتخلص من الزُعماء الذين اتبعوا سياسات مُخالفة لمصالحهم. طالب البيان أمريكا بالتخلص من مخزون أسلحتها الكيماوية والبيولوجية وفقا لالتزاماتها الدولية، والتخلى عن خططها الخاصة بنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى فى منطقة آسيا والمحيط الهادى وأوروبا. وأكدا أن انسحاب أمريكا من معاهدة تصفية هذه الصواريخ وقيامها بتطويرها وإمداد حُلفائها بها يهدد الأمن الدولى والإقليمي. كما طالب الدول النووية بسحب كل أسلحتها النووية المُنتشرة خارج حدودها، والحد من تطوير منظوماتها الجوية العالمية من أجل تقليص خطر اندلاع حرب نووية. وأكدت الدولتان موقفيهما بشأن عدم تسليح الفضاء وأن يكون استخدامه حصريًا للأغراض السلمية. ودعت كُل منهما إلى بدء المفاوضات لتوقيع اتفاقية مُتعددة الأطراف لمنع سباق التسلح فى الفضاء وأكدا استعدادهما للتعاون الدولى فى مجال الأمن المعلوماتى الدولى لضمان أمن الفضاء. وأكد البيان الدعم المُتبادل لحماية مصالحهما وسيادتهما ووحدة أراضيهما ومُعارضة أى تدخل خارجى فى شئونهما، وتعهدا بالتصدى لمثل هذا التدخُل. فى هذا السياق، أكدت روسيا التزامها بمبدأ «الصين الواحدة»، وأن تايوان جزء لا يتجزأ منها. وأن الدولتين تعارضان توسع حلف الأطلنطي، وتحثانه على التخلى عن نهجه الأيديولوجى وأساليب الحرب الباردة. ودعمت الصين الموقف الروسى بخصوص ضرورة وجود ضمانات قانونية مُلزمة بشأن أمن أوروبا. وبخصوص آسيا، عارضت الدولتان إقامة أحلاف مُغلقة أو مُعسكرات مُتنافسة فى منطقة آسيا والمُحيط الهادى وتحديدًا أدان البيان إنشاء حلف الأوكوس بين أمريكا وبريطانيا واستراليا، باعتباره مبعثًا لسباق تسلح فى المنطقة ولانتشار السلاح النووي، بما يُهدد الأمن والاستقرار الاستراتيجى فيها.
إن صدور هذا البيان من الصين وروسيا يُعد إعلانًا من الدولتين بضرورة مُراجعة الاختلالات القائمة فى النظام الدولى الراهن وإحياء القيم المؤسسة لنظام الأمم المُتحدة والتى تقوم على المُساواة بين الدول وعدم التدخُل فى شئونها الداخلية، وإنهاء التجاوزات التى أدخلتها أمريكا فى بنية العلاقات الدولية فى مرحلة هيمنةالقُطب الواحد وسيطرته على إدارة العالم.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: