تعد قضية الوعى من أهم القضايا التى شغلت بال العديد من الساسة والعلماء عبر التاريخ، والتى تعرضت بدورها لمتغيرات جديدة فرضتها الثورة الرقمية والمعرفية، والتى سرعان ما كان لها تأثيرات عميقة على الفرد والمجتمع والدولة، وعلى قدر ما أتاحت للمجتمع البشرى فرصا جديدة للقوة و المعرفة والثروة، فإنها جاءت كذلك بتهديدات غير مسبوقة فيما يتعلق بطبيعتها أو بمستويات مواجهتها.
ودفع ذلك لأهمية صناعة الوعى والتأثير عبر المنصات الرقمية لاستهداف الكتلة الحرجة من الشباب والمراهقين، وهم الأكثر تفاعلا واستخداما لها ، خاصة مع رخص التكلفة وسرعة الانتشار، وانتقال تقنية البث من الفرد الى الفرد ثم منه إلى الكل فمرحلة بث الكل الى الكل، وضخامة التفاعل مع تصاعد دور الهواتف الذكية والشبكات الاجتماعية .وتطورت صناعة المحتوى الرقمى سواء أكان نصا أو صوتا أو فيديو أو صورة، أو فنون صناعة البيانات مثل الجرافيك والانفوجرافيك، ورقمنة صناعة الكتب والسينما والترفيه، وخضوع المليارات من المستخدمين عبر العالم لمؤثرات وتطبيقات واحدة عبر المجال السيبرانى، وصعدت قوى جديدة فى مجال الصناعات الثقافية الرقمية، وبدأت تمارس سلطة المعرفة عبر الحدود، وهدفت شركات التقنية الكبرى لتوظيف تلك المعطيات لتحقيق أهداف تجارية ومالية أو توظيفها من قبل الدول لخدمة سياستها الخارجية وفرض قوتها الناعمة عبر الحدود. وتوظف المؤثرات الصوتية والمرئية فى معركة الاستحواذ على القلوب والعقول لزيادة عدد المشاهدات عبر استخدام تكتيكات دعائية للإقناع ولجعل التأثير أكثر عمقا فى الوعى بشقيه الفردى والجماعى. وتصاعد تصنيف واتاحة المعلومات والخوارزميات وملفات التتبع والذكاء الاصطناعى فى زيادة نسب الاستهداف بين الجمهور، وفى ظل حالة الاحتكار للشركات التقنية سواء فى مجال الشبكات الاجتماعية أو محركات البحث أو فى الترفيه فى مقابل ضعف البدائل الوطنية.ويتم نشر المحتوى فى جزء كبير منه فى ظل غياب التفكير النقدى وتدنى الثقافة العامة وضعف دور وسائل الإعلام ، وتأثير ذلك على قدرة الفرد على إدراك وتفسير الواقع الذى يتم وفق المعرفة والقيم المتشكلة لديه عبر تلك المنصات ،والتى توجهه فى اتخاذ القرار،والحكم على الأفكار او الاشخاص او الاحداث. وباتت تؤثر كذلك فى تقديره لذاته ودوره فى الحياة او شعوره بالتفاؤل والسعادة أو بالانتماء،وهو ما يترجم لاشعوريا فى سلوك الفرد داخل بيئة التفاعل المادية أو الرقمية، وتحريك القيم بشكل عام من حالة الثبات الى حالة التفاعل ومن حالة التبنى المطلق الى اعادة التفكير، ووجود سوق مفتوحة للأفكار واختبارها وقياسها وتطويرها وانتقالها بعيدا عن اعتبارات الزمان او المكان.فى ظل تنامى بيئة عدم اليقين عبر المنصات الرقمية،يتم افتقاد مقياس الانتقاء بين القيم المعوقة والاخرى المعززة للتنمية ،وخروج عملية الفرز من بين أفواه المتخصصين من رجال الدين والثقافة الى اناس آخرين لا يجمعهم الا الرغبة فى التأثير،لتحقيق مكاسب مادية وليست بالضرورة ثقافية.
وذلك مع تراجع دور الإعلام الموجه من قبل الدولة لصالح سيطرة الإعلام الرقمى، وصعود دور فاعلين جدد فى التأثير فى الراى العام، ويمكنهم ان يحدثوا حالة من التفتت فى الاتجاهات او الرغبات ، أو بتصعيد ميول جديدة، أو عبر نشر اتجاهات فكرية لا تعبر عن أجندة المجتمع أو ثقافته المحلية ،وهو الامر الذى يحد فى الاخير من قدرة الدولة فى التعبئة القومية للموارد لخدمة التنمية، وبالرغم من دور المنصات الرقمية فى زيادة الوعى بالمطالب لدى المواطنين، الا انها زادت من الضغوط على صانعى القرار مع ضعف الموارد، وهو الأمر الذى ينمى مشاعر الإحباط ،وتكون بيئة حاضنة ، توظفها جهات مغرضة لزعزعة الثقة بين الدولة والمجتمع،ويوفر ذلك فرصة لزيادة استهلاك المعلومات المضللة وتطبيقات الوعى الزائف والحروب النفسية. وتتطلب عملية الرصد والتحليل للسلوك عبر المنصات الرقمية لبناء الوعى معالجة مفارقات، منها انه بالرغم من انها اتاحت القدرة على التعبئة الجماعية الا انها اتاحت الفرصة للإحساس بالفردية والعزلة والانغلاق . وبالرغم من ممارسة الفرد إرادته الحرة فى السلوك والتسوق الا انها اتاحت الفرصة للخضوع الى مؤثرات تشكل اختياراته وقناعاته .وبالرغم من تحولها كمصدر هائل للمعلومات المجانية الا انها لم تتحول بالضرورة الى معرفة وإبداع . وتحتاج مواجهة التأثيرات السلبية للمنصات الرقمية الى تبنى منظومة استراتيجية وطنية لبناء الوعى تكون قائمة على الاستثمار فى القيم والشباب باعتبارهما يشكلان منصة التغيير، وهو ما يظهر فى تطوير الوجدان والمعرفة والإدراك والسلوك لبناء وعى حقيقى. إن صناعة الوعى الفردى هى اللبنة الأولى فى بناء الوعى الجماعى ،وهى عملية تراكمية ذات أبعاد قصيرة وطويلة الأمد ، وترتكز على إحداث تغيير ثقافى يساند حركة التنمية ويحافظ عليها ويضمن استدامتها، ويتطلب ذلك تكاتف كافة الجهود الشعبية والرسمية حول بناء الوعى باعتباره مشروعا قوميا لا يحافظ فقط على عقل الانسان بل على ثروته وحاضره ومستقبله، ويحرره كذلك من قيود ومعوقات التنمية ويجعله ينطلق نحو المساهمة فى بناء الحضارة الإنسانية .
لمزيد من مقالات د. عادل عبد الصادق رابط دائم: