على مدى سنوات القرنين التاسع عشر والعشرين، انشغل المُفكرون المِصريون بسؤالين: الأول لماذا حدث التخلُف ولم تتمكن مُجتمعاتنا العربية من الاستمرار فى تطورها؟ والثانى التقدم وما هى التغييرات التى يجب أن تحدُث سبيلاً للنهضة والتقدُم؟
تبلور هذان السؤالان فى فترة ما بعد خروج الحملة الفرنسية من مِصر. وتلمس المُفكرون المِصريون الإجابات عنهما، وظهر منهم نفرُ من أبناء الصعيد أمثال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، والشيخ مُصطفى عبد الرازق، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، ولويس عوض، قام هؤلاء بإثراء الحياة الفكرية والثقافية بأطروحات جديدة وأفكار مُستحدثة مثلت إضافة إلى ما كان مُتداولًا وقتها، وأثارت الجدل والحوار بشأنها، وأُركزُ فى هذا المَقال على أولهم تاريخيًا وهو الشيخ رفاعة ابن مدينة طهطا بمُحافظة سوهاج والذى وُلد عام 1801.
انتسب الطفل رفاعة إلى أُسرة عُرفت بطلب العلم واشتغل رجالها بالقضاء والوعظ. حفظ القُرآن الكريم ودرس مبادئ الشريعة والفقه، وتعلم القراءة والكتابة فى بلدته حتى بلغ السادسة عشرة من عُمره فنزح إلى القاهرة لاستكمال تعليمه بالأزهر الشريف، ثُم عُين بعد تخرجه واعظًا بالجيِش المصرى. وفى عام 1826، رشحه أستاذه الشيخ حسن العطار لمُرافقة إحدى البعثات التعليمية إلى فرنسا، والعمل واعظًا وإمامًا لها. ووافق الوالى مُحمد على، على هذا الاختيار.
كان سؤال التغيير يملأ عقل الشاب رفاعة وقتذاك وذلك تحت تأثير أفكار أستاذه العطار الذى دعا لإصلاح نظام التعليم فى الأزهر وإدخال موضوعات العلم الحديث فيه، فكان بذلك مُهيئًا للنظر والتأمُل فى المُجتمع الأوروبى الجديد الذى عاش فيه خمس سنوات، وفى أسباب تقدمه الفكرى والعلمى والتنظيمى التى يُمكن لوطنه أن يستفيد منها.
ومع أن الطهطاوى لم يذهب إلى فرنسا كطالب علم، ونظرًا لما بدر عنه من جدية فى تحصيل العلم، فقد تقرر ضمه للبعثة التعليمية والتخصص فى الترجمة إلى جانب عمله واعظًا لها، كان الطهطاوى ولعًا بالاطلاع وسبر أغوار المُجتمع الذى عاش فيه، فتعلم اللغة الفرنسية وأطلع على أُمهات الكُتب والحضارة الأوروبية. وقرأ فى الفلسفة الإغريقية والرياضيات والجغرافيا وتاريخ الحضارات، واستخلص من قراءاته وخبراته العبر والدروس.
وبعد عودته إلى مِصر، بدأ فى نقل حصيلة خبرته ومعرفته إلى اللغة العربية عبر التأليف والتعريب. وأذكر هنا أهم الآراء التى أوردها فى ثلاثة من كُتبه.
ففى كتاب تخليص الإبريز فى تلخيص باريز الذى صدر عام 1834، قدم نظرته لواقع المُجتمع الفرنسى وثقافته والعادات الاجتماعية السائدة فيه والحقوق التى يوفرها القانون للناس فى هذا الوقت. وأشار إلى إدارة المُجتمع لشئونه فكتب عن الآلات الهندسية وآلات جر الأثقال، وصناعة القناطر والجسور، وفنون الهندسة الحربية.
وفى كتابه مناهج الألباب فى مباهج الآداب العصرية الذى صدر عام 1869 قدم عرضًا لأهم مفاهيم الفكر السياسى وقام بترجمة الدستور الفرنسى الصادر عام 1814 فى عهد الملك لويس الثامن عشر متتبعًا التعديلات التى أدخلت عليه نحو مزيد من الليبرالية السياسية، وناقش الكتاب دائرة واسعة من الموضوعات مثل ضرورة التمييز بين الأخوة فى الوطن والأخوة فى الدين، وأهمية تنمية الروح العامة وهى ما نسميه الآن بالمواطنة.
كشف هذا الكتاب عن إعجاب الشيخ بقيم الحرية والمساواة وتقديره لقيمة الفردية والملكية. فناقش نصوص الدستور الفرنسى، قارن بين بعض الوقائع والنصوص فى فرنسا بأحداث مماثلة فى عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وفترة الخلافة الرشيدة، مُعطيًا الانطباع بأنه يمكن التوفيق بين أفكار الليبرالية السياسية ومبادئ الدين الإسلامى.
وفى مجال الاقتصاد، طرح مفهوم المنافع العمومية التى قصد بها التقدُم فى الزراعة والصناعة والتجارة مُعتبرًا أن العمل مصدر الثروة وأساس الغنى والسعادة. وانتقد السلوكيات الجشعة لبعض كِبار مُلاك الأرض، واحتكارهم العوائد المالية على حساب الذين عملوا حقًا وهُم الفلاحون.
وقبل وفاته بعام واحد، أصدر الطهطاوى كتاب المُرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين والذى أكد فيه دور التعليم كمفتاح لتقدم الأمم والمجتمعات مُشيرًا إلى أنه بالتربية تنمو العقول وتتحسن الادراكات... فالغرض من التربية تنمية الصغير جسدًا وروحًا وأخلاقًا. لم يكُن الطهطاوى رجل تأليف وفِكر وحسب، بل اعترك الحياة العملية وكان محل تقدير مُحمد على الذى عينه مُترجمًا بكُلية الطب، وعندما أنشأ مدرسة الترجمة (الألسُن حاليًا) لتعليم اللغات، عينه مُديرًا لها عام 1835. كما عُين رئيسًا لتحرير صحيفة الوقائع المصرية عام 1842 وهى الجريدة الرسمية التى كانت تصدر حتى ذلك الوقت باللغة التركية، فحولها إلى اللغة العربية.
وتقلبت حظوظ الطهطاوى مع تغير حُكام مِصر بعد وفاة مُحمد على. فقام خلفه عباس باشا بإغلاق مدرسة الألسن ووقف حركة الترجمة ونفى الطهطاوى إلى السودان عام 1850 ليعمل ناظرًا بإحدى مدارسها الابتدائية، حيث قضى فيها أربع سنوات، حتى أعاده سعيد باشا وكلفه بأن يكون ناظرًا للمدرسة الحربية وهى الهيئة المسئولة عن تعليم وتخريج ضُباط الجيش. وفى عهد الخديو إسماعيل، أُعيد تعيين الطهطاوى مُديرًا لمدرسة الألسن. ثم أًصدر روضة المدارس، وهى أول مجلة ثقافية وفكرية. تُوفى الطهطاوى عام 1873 تاركًا وراءه حصيلة واسعة من الكُتب والترجمات والعمل الدءوب لنشر معارف العلم الحديث فى مُختلف مجالاته. وقدم للمصريين فى كُتبه القواعد والمبادئ التى تُساعدهم على تغيير واقعهم وبناء الدولة الوطنية الحديثة. لذلك، يتفق الباحثون على أن هذا الشيخ العظيم هو رائد الفكر السياسى والاجتماعى الحديث فى مصر.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: