رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ذكريات الصعيد

اختار الرئيس السيسى أن يودع 2021 من الصعيد، حيث قضى الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر مُتنقلًا بين مُدنه وقُراه، ومُفتتحًا عددا من المشروعات الكبيرة. مما يُشير إلى مكانة الصعيد وأهميته فى مشروع التنمية الشاملة والمُستدامة لمِصر. فى هذا الإطار، نُقارن هذه المكانة بالصورة الذهنية التقليدية عن الصعيد كمكان فقير وبعيد تزداد فيه مشاق الحياة، وصعابها، فانخفضت مُعدلات التنمية الاقتصادية فيه، وتراجعت فُرص الرزق والحياة مما جعله منطقة طاردة للسُكان الذين نزحوا إلى مُختلف أرجاء البلاد، وللأسف مجالًا للتندُر. وكانت الهيئات الحكومية تُعاقب موظفيها المُهملين والكسالى بنقلهم إلى الصعيد.

وارتبطت بذلك من الناحية الاجتماعية، صورة الصعيد كمكان تسوده الصرامة والعادات والتقاليد الجامدة وظواهر الطائفية، ومطاريد الجبل، والأخذ بالثأر. وهو ما ظهر فى عدد من الأعمال الأدبية مثل خالتى صفية والدير لبهاء طاهر، ودماء وطين ليحيى حقى، وكُل شيء هادئ فى الجنوب لحمدى البطران. وفى الأفلام السينمائية الوحش، وصراع فى الوادى، وصراع فى النيل، والهروب، وصعيدى رايح جاى، والجزيرة. وفى الدراما التليفزيونية ذئاب الجبل، والضوء الشارد، وشيخ العرب همام، ونسر الصعيد.

وأُقارن المكانة الجديدة للصعيد مع تجربة شخصية لى فى عام 2000 عندما قمتُ باعتبارى وزيرًا للشباب بزيارة إلى مُحافظة قنا التى شهدت وقتذاك بداية عمل دءوب وجاد بقيادة مُحافظها اللواء عادل لبيب، وحيثُ إنه لم يكُن يُوجدُ خط طيران مُنتظم إلى قنا، سافرتُ إلى الأُقصر فى الصباح الباكر ومنها بالسيارة إلى قِنا، حيثُ قُمت بزيارة عدد من مراكز الشباب. وقُرب انتهاء اليوم، فاجأنى المُحافظ بطلب وهو أن أقضى الليلة فى المُحافظة. وعندما استفسرت منه عنه السبب، فاجأنى بأنه على مدى سنوات فإن الوزراء يؤدون عملهم فى قِنا ثُم يعودون للمبيت فى الأقصر، حيثُ تتوافر فيها الفنادق. فاستجبت إلى طلبه، وأخبرنى أن مكان المبيت سيكون استراحة المُحافظة حتحور، وكان مكانًا مُتواضعًا ولكنه يحتل موقعًا مُتميزًا على ضفاف النيل. وأخبرنى اللواء لبيب فى اليوم التالى أن مبيتى ترك أثرًا طيبًا لدى الناس. وبالمُناسبة، فقد عُدتُ إلى قِنا بعد عدة سنوات ووجدت حتحور وقد أصبحت فُندقًا فاخرًا، وأصبح فى المدينة عدة فنادق أُخرى. والصورة التقليدية عن الصعيد هى جُزء من الحقيقة وهى نتاج لسياسات من التهميش وعدم الاهتمام الذى استمر عقودا. والجزء الآخر من الحقيقة هو أن الصعيد أحد معاقل حضارة مِصر وتاريخها السياسى والاجتماعى.

وإذا بدأنا بالمعنى اللُغوى، فإن كلمة الصعيد تُشيرُ إلى المكان المُرتفع من الأرض، ويحمل معنى الترقى، فإنك عندما تُسافر من أسوان إلى الإسكندرية، فإنك تهبط تدريجيًا إلى مُستوى البحر. لذلك سميت محافظاته بـ «مصر العُليا» بينما تُسمى مُحافظات الوجه البحرى بمِصر السُفلى. ومن الناحية السياسية، كان الصعيدُ مقرًا لعاصمة الدولة فى الحضارة المصرية القديمة، فانتقلت ما بين طيبة فى الأقصر، واللشت وهى منطقة بين الفيوم وبنى سويف، وإهناسيا فى بنى سويف. وبعد أن انتقلت العاصمة خارجه، عاش الصعيد قرونا مُستقلًا فى إدارة أموره دون تدخل كبير من السُلطة المركزية. وازداد هذا التدخل تدريجيًا فى القرن الثامن عشر وتوزعت إدارة الصعيد ما بين ولاية كبرى هى جرجا، وعدد من الوحدات الإدارية التى سميت «كاشفيات» والتى برز فيها دور الملتزم الذى تولى مسئولية إدارة القرية وتنظيم شئونها وجمع الضرائب، وحفظ الأمن. واستمرت الرمزية السياسية للصعيد فى العصر الحديث. وفى عام 1933، أصدر الملك فؤاد الأول قرارًا ملكيًا بتسمية ولى العهد الأمير فاروق بلقب أمير الصعيد.

ومن الناحية الاقتصادية، ظلت مُحافظات الصعيد مصدرًا أساسيًا للغلال والحبوب، ورزح أهلها فى العهد العثمانى تحت وطأة الضرائب الباهظة، والمُغالى فيها المفروضة على الأرض. ومن الناحية الاجتماعية، فإلى جانب أحفاد المصريين القُدماء، هاجرت إلى الصعيد القبائل العربية. ويُشير بعض المؤرخين إلى أن هذه الهجرة بدأت من قبل ظهور الإسلام. ففى الصعيد تُوجد تركيبات اجتماعية مُتميزة ضمت الفلاحين، وأهالى النوبة، والقبائل العربية الذين أطلق عليهُم المؤرخون قديمًا لقب العربان أو بدو الصحراء، والعناصر العُثمانية التى قدمت فى عهد محمد على. ويضم العرب الهوارة والأشراف. كان الصعيد جُزءًا من تطور الحياة السياسية فى مِصر. ففى القرن 17، أصبح ملجأ للفارين من الأُمراء والمماليك بسبب تقلبات الحُكم وعدم الاستقرار السياسى فى القاهرة. وهرب إليه عدد من أشهر من حكموا مِصر مثل على بك الكبير، ومُراد بك وإبراهيم بك، ومحمد بك أبو الدهب. ولاذوا به لإعادة بناء قواتهم واستعادة نفوذهم فى العاصمة. وأقاموا تحالفات مع القوة الكبيرة وقتها فى الصعيد وهى قبيلة الهوارة التى سيطرت على أغلب مناطقه، والتى كان من أشهر زُعمائها شيخ العرب همام. وفى نهاية هذا القرن، شارك أهالى الصعيد فى مُقاومة الحملة الفرنسية وكانت لهُم فيها صولات وجولات. وفى القرن التاسع عشر كانوا المصدر الرئيسى لتكوين الجيش المِصرى الحديث. ثُم شاركوا فى القرن العشرين فى أحداث الثورة المِصرية الكُبرى عام 1919. وحسب تاريخ هذه الثورة، فإنه تكاد لا تُوجد مدينة أو قرية فى الصعيد لم يكُن فيها شُهداء. ومن الناحية الفكرية والثقافية، قدم الصعيد عددًا من كِبار المُبدعين فى مجالات الفكر والثقافة والأدب والشعر والذين كانت لهم بصماتهم الواضحة فى كُل مجال.

ولهذا كُله، فعندما تُعيد الدولة المِصرية الصعيد إلى مكانته الجدير بها، فإنها فى واقع الأمر تُعيد اكتشاف هذه المنطقة الاستراتيجية فى المعمور المِصرى. وهو ما سوف أُعود للكتابة عنه إن شاء الله.


لمزيد من مقالات د. على الدين هلال

رابط دائم: