رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الحلال

إذا كانت الصورة تغنى عن ألف كلمة، لما تمثله من أهمية بالغة فى التعبير عن الواقع، بصدق شديد دون تحريف، فإن مشهدا واحدا قد يغنى عن كل الكلام، رغم بساطته وتلقائيته، إلا أنه أبلغ ما رأيت فى حياتى.

رجل بسيط، طيب الملامح، يسير فى الشارع، فيقابله مذيع جبر الخواطر «أحمد رأفت»، كما يطلق عليه الناس، فيسأله سؤالا بسيطا للغاية، وبساطة السؤال توضح سهولة الإجابة، فيجيب الرجل الطيب، فيقدم له المذيع جائزة برنامجه، ثلاثة آلاف جنيه، حتى تلك اللحظة تسير الأمور فى إطار مقبول و طبيعى، كل المشاهدين ينتظرون أن يقدم المذيع للرجل الطيب جائزته المادية، ويعلمون أيضا أنها تخرج لأمثال هذا الرجل الطيب النقى.

فيتفاجأ الطيب بهذا المبلغ، فيتعجب، ويقول قولته التلقائية حلال دول؟ ليهز السؤال مشاعر كل المشاهدين و يزلزل وجدانهم، ما هذا الرجل الطيب، أيمكن أن يتردد فى قبول ذلك المبلغ؟

نعم تردد، والأجَلّ قولته الثانية حأقول لربنا ايه عليهم، ما هذا الورع والتقوى والإيمان، رجل يشترى آخرته بكل قوته، ولنتخيل كيف يعيش حياته، فى يده بضعة جنيهات، وقفص فارغ، خرج يأتى بطعام قليل ولكنه يكفيه، قانع وراض بقضاء ربه و برزقه، يتحرى الحلال، ويخشى الله سبحانه وتعالى، لأنه يعمل حساب يوم لقاء ربه، وما أعظم ذلك اليوم، إنه بمثابة خمسين ألف عام مما نعد.

لم أتوقف عند رجلنا الطيب فقط، ولكن هذا المشهد تكرر أكثر من مرة، مع امرأة بسيطة، تعلو وجهها ابتسامة الرضا، وحينما فازت بجائزة البرنامج سألت نفس السؤال حلال دول؟ ولم تتسرع لتأخذها وتذهب، وقالت جملة، ستظل عالقة فى ذهنى إلى يوم مماتى، (ما بحبش آخد فلوس ما شقيتش بيها) هذا المشهد يضاف لسابقه، يبين عظمة وقيمة الكفاح والسعى على الرزق، والكد فيه، ويمكن أن أروى لحضراتكم عشرات المشاهد التى شاهدتها على مر عمرى الذى تجاوز الخمسين، كلها مشاهد لأهلنا الطيبين البسطاء العاشقين للعمل، للشقى، المتحرين الحلال، والباحثين عن اللقمة الطاهرة الشريفة العفيفة، المعجونة بعرق الكفاح الطاهر، ذلك الكفاح الذى قد يصل بصاحبه إلى أن ينام فور انتهاء عناء يوم عمل شاق، وهناك آلاف بالمقابل، يملكون سرائر مفروشة بريش النعام والحرير، يهرب النوم من أعينهم ويخاصم جفونهم، وعلى استعداد لدفع مقابل مادى ضخم جدا لنيل قسط منه.

والعبرة هنا براحة البال، وتلك ميزة أخرى لا تقدر بثمن، الفارق بين المشهدين كبير، المرفه الذى يخاصمه النوم، والشقيان الذى يغفو عند وضع رأسه على مخدعه، وهو نفس الفارق بين الحلال والحرام، كالفارق بين السماء والأرض، وبين المشرق والمغرب، مسافة كبيرة جدا، ونحن فى عصرنا هذا نحتاج لوقت طويل جدا لقطعها.

فى أحد الأيام، كنت ذاهبا لقضاء حاجة، فركنت سيارتى فى منطقة مزدحمة جدا، وحمدت الله أن وجدت ذلك المكان، حيث صادفنى رجل بلحية بيضاء جميلة، وهو من أشار على بركنها فى هذا المكان، وقررت عند عودتى أن أعطيه ما فيه النصيب.

ولكن حين أنهيت حاجتى، رجعت أبحث عنه ولم أجده، وتمر الأيام، وألتقيه فى نفس المكان، وحينها قررت أن أعطيه ما نويته سابقاً، فإذا به يرفض، فتعجبت، وسألته لماذا يرفض ما أعطيه، فقال لا أحب أن آخذ مالاً لم أشق به.

وقتها حاولت التقرب من هذا الطيب النبيل، فعلمت أنه يعمل فى وظيفة بسيطة، يأخذ مقابلها راتبا يكاد يكفيه، ويعمل بعدها فى وظائف متنوعة، ولكنها مرهقة، تتطلب مجهودا كبيرا، ويحمد الله على إعانته على عمله، وله 3 أولاد، طبيب ومهندس ومحاسب، يقول، لقد شقيت عليهم، وربنا بارك لى فيهم، والحمد لله طلعوا ولاد حلال، ما تعبونيش فى تربيتهم، لأنى عاهدت الله على أن أصرف عليهم من حلال رغم قلة دخلى.

وربنا كرمهم واشتغلوا وبيصرفوا على نفسهم، وحينما سألته عن قدرته على تعليمهم، لاسيما الدروس الخصوصية وتكاليفها العالية. قال، لم يأخذ أحد منهم درساً فى أى يوم، وكنت أشعر أن الله يكافئنى فى أولادى، ولا يمكن أن أصف لك مدى فخرى وسعادتى بهم، ليس فقط لتفوقهم، ولكن لافتخارهم بى و بعملى أمام كل الناس.

كلما تمر قضية فساد تعلن عنها أجهزة الدولة، كلما تعجبت من هؤلاء الفاسدين، أى طمع هذا الذى يعمى القلوب، ويحولها لحجر أصم، لا يعى ولا يشعر، مراده الجشع القاتل، ولأنه يجمع مالا حراماً، فنهايته الفضيحة فى الأرض ويوم العرض.

أيها الفاسد، كم جمعت؟! مليونا، اثنين، عشرة، وماذا فعلت بها، أكلت وشربت، وتنعمت بالحرام، كل ذلك زائل، إذا وضعت ما جمعته من حرام فى كفة، ووضعت لحظة ستر من الله فى كفة، فأى كفة تميل.

الحلال، تنفقه فى طعام أو فى زواج، أو تربية أولاد، أو .. الخ، ستجنى مقابله حلالا طيبا طاهرا صالحا، من صحة وذرية طيبة، وبركة فى الرزق والعمر، أما الحرام، فستجنى مالاً لا حدود له، ولكنك ستفتقد السعادة، والبركة والصحة، وفى وقت ما ستفتقد الستر. وفقده يعنى أن تترك الدنيا بسيرة سيئة، ويا لها من نهاية تعسة خبيثة، تظل تلاحقك بعد الموت.

وأخيراً، الحلال و تحريه يعنى أنك تسير فى معية الله، أما الحرام والسعى إليه، يعنى أنك تسير فى معية الشيطان، والفارق لا يحتاج توضيحا، فمن ترغب أن تكون فى معيته؟!

[email protected]
لمزيد من مقالات عماد رحيم

رابط دائم: