العمل الثانى والخالد الذى قدمه لنا رجاء النقاش عن نجيب محفوظ هو العدد الخاص من مجلة الهلال بتاريخ أول فبراير 1970 عندما كان رئيسا لتحرير المجلة. كان العدد كما وصفه رجاء النقاش فى مقدمته إسهاما فى تكريم فنان كبير له موهبته اللامعة وله تأثيره العميق على حياتنا الفكرية والوجدانية. ثم أضاف: منذ أول سطر كتبه نجيب محفوظ حتى آخر سطر فهو يضع عينيه دائما على مصر. إنه يستمع باستمرار الى نبض مصر فى تاريخها وواقعها ولا يضع حاجزا بين أدبه وبين هذا التاريخ أوالواقع على الإطلاق. كل ما كتبه نجيب محفوظ له صلة بمصر وبالتاريخ والإنسان والمستقبل فى مصر. وأدبه ومن هنا هو لون من الأدب السياسى الرفيع وهذه نقطة قوة أساسية تربط بينه وبين تاريخنا القومى برباط لا ينقطع وترفع من قامة نجيب محفوظ حتى تجعله من بناة الوجدان العربى المصرى الأصيل.
يحتوى العدد على مقالات وموضوعات عن نجيب محفوظ تشمل مقالا للدكتور على الراعى بعنوان مأساة الثائر الفرد عند نجيب محفوظ ومقال لمحمود أمين العالم بعنوان مرحلة جديدة فى عالم نجيب محفوظ ومقال لإبراهيم عامر بعنوان نجيب محفوظ سياسيا من ثورة 1919 الى 1967. كما يشمل العدد أسئلة وجهها له عشرة نقاد إضافة بعنوان «عشرة نقاد وعشر قضايا فى محاكمة نجيب محفوظ». هؤلاء العشرة هم: أنيس منصور ورشاد رشدى ورشدى صالح والدكتورة فاطمة موسى وفؤاد دوارة ودكتورة لطيفة الزيات ولويس عوض ومعين بسيسو والدكتور مصطفى سويف وضياء الدين بيبرس. اشترك أيضا فى المحاكمة رجاء النقاش. كان كل واحد منهم يطرح سؤالا على نجيب محفوظ ويعقبه إجابة محفوظ. هذه الأسئلة من هؤلاء الكبار الذين كانوا يمثلون غالبية جوانب الثقافة المصرية حينها وإجابة محفوظ عقب كل سؤال تمثل غالبية جوانب فكر محفوظ. كانت إضافة عظيمة لم نعرفها من قبل نشر العدد. عندما سأله أنيس منصور سؤالا مطولا: أنت رجل مقتدر على معظم الأشكال الأدبية, سدت فى الرواية وتفوقت فى القصة ومارست المسرحية فلماذا لم تجرب كتابة المقال وهو من أهم الأشكال الأدبية وأصرحها للتعبير عن الرأى, وهناك روائيون ومسرحيون اشتهروا بالرواية والمسرحية وفى نفس الوقت يعتبرون من أعظم كتاب المقالات, وأنت لماذا لم تكتب المقال؟. هل تخاف أن يكون لك موقف بين وواضح - وأنا لا أنكر أنك رجل بين وواضح - فتحاسب عليه وبذلك تفضل أن تضع مواقفك على ألسنة أبطالك وأن تكون أحسن من يتظاهر بأنه ثمل بينما هو واع فى منتهى الوعى؟. أجاب محفوظ عن هذا السؤال بقوله: عزيزى الأستاذ أنيس: أبيت إلا أن تجعل من سؤالك مقالا, وأن تحصى فى نفس الوقت الإجابات الممكنة فلا تفوتك إجابة. لقد بدأت حياتى بكتابة المقال. كتبت بصفة متواصلة فيما بين عامى 1928 و1936 مقالات فى الفلسفة والأدب فى المجلة الجديدة والمعرفة والجهاد اليومى وكوكب الشرق. ثم اهتديت الى وسيلتى التعبيرية المفضلة وهى القصة والرواية. ولو كنت صحفيا لواصلت كتابة المقال الى جانب القصة والرواية, ولكنى كنت ومازلت موظفا, فلم يكن شىء يرجعنى الى المقال إلا ضرورة ملحة يضيق عنها التعبير القصصى. وأعترف لك بأن هذه الضرورة لم توجد بعد. فأنا لا أعد نفسى من أصحاب الرأى، ولكنى من زمرة المنفعلين بالآراء, ولذلك فمجالى هو الفن لا الفكر, وثق بأنه لو أخرجنى الله من الظلمات برأى شخصى يمكن أن أنسبه الى نفسى لما ترددت لحظة فى تسجيله فى مجاله المفضل - بل الوحيد - وهو المقال. ألا ترى أن جربته صاحب رأى فى الرواية الجديدة وفى المسرح. ولكن ما حيلتى إذا لم يكن عندى رأى جديد؟. قضى ربك أن أكون من أصحاب القلوب لا أصحاب العقول ولا مناص من الرضا بقضاء الله.
شمل العدد مقالا للأستاذ صلاح البيطار بعنوان عنبر لولو بالألمانية, معلقا فيه على رأى الألمان فى أدب نجيب محفوظ وكيف أنهم يقدرونه هناك ربما أكثر مما نقدره فى مصر, لدرجة أن أحد النقاد الألمان كتب: فى مصر تعرفون نجيب محفوظ ولا تعرفون أدبه. ولو كان نجيب محفوظ عندنا لأنفقنا عليه الملايين ليحصل على جائزة نوبل.
تحققت نبوءة الناقد الألمانى عام 1988 عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل. قال ناقد آخر: محفوظ لا يقل فى مكانته الأدبية عن أى أديب عالمى وربما يفوق الكثيرين منهم وإننا معشر المثقفين فى ألمانيا نضع نجيب محفوظ فى قلوبنا وأدبه فى عقولنا لأنه «جوتة مصر», فهو يشبه فى كثير من أعماله الشاعر الأديب جوتة. شمل العدد أيضا تعليقات نجيب محفوظ بقلمه عن أسرته لأول مرة, حيث التقطت الهلال صورا له مع ابنتيه كما تشمل تعليقه على رسومات لابنته أم كلثوم وعلى صور شخصية أخرى له عبر مراحل عمره المختلفة وفيها سمح لنا محفوظ أن نعرف عن أسراره الخاصة الكثير. كتب معلقا على صورة له مع ابنتيه: ابنتاى وأنا. شئون تربيتهما موكولة الى أمهما ثم أفسد أنا ما بنته الأم طول النهار حين أجلس معهما الى جوار التليفزيون. ابنتاى صديقتاى, وأنا أحب أن أضحك مع أصدقائى ولا أشخط فيهما. عند هذا الحد تختلف معى قرينتى. تسألنى عن رأى ابنتى فى قصصى؟. القديمة تعجبهما جدا أما أقاصيصى الجديدة فهما أحيانا يتهمانى بالجنون, وهما لا تترددان فى مصارحتى بآرائهما فى شخصى, وأمهما تعتبر الصراحة تدليلا يكاد يقف على حدود قلة الأدب.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: