رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الوداع الأخير

ربما تكون المرة الأولى طيلة عمرى الصحفى فى الأهرام الذى يتجاوز أكثر من ثلاثين عاما. والذى كتبت خلاله فى الأهرام وعديد إصداراته آلاف الموضوعات والأحاديث والمقالات فى الشأن السياسى المصرى والعربى والإقليمى والدولى عبر رحلة صحفية طويلة وعميقة. التى انوى فيها اليوم الاستئذان من القارىء والكتابة هذه المرة عن أمر شخصى عائلى ألم بى وتعلق بالمرض العضال الذى نال من أمى واستمر عامين متصلين. وانتهى بكتابة المشهد الأخير بوفاتها نهاية الاسبوع الماضي.

حيث كانت رحلة علاج طويلة وتجربة مريرة توقفت فيها حياتى طيلة العامين بسبب موجات الغيبوبة الطويلة التى ألمت بالوالدة وجعلتها طريحة الفراش طويلا. بعد أن نصح الأطباء بضرورة الإبقاء عليها فى المنزل حيث تزامن بداية مرضها مع الظهور الأول الفتاك لمرض كورونا اللعين. وقرروا عدم إلحاقها بأى مستشفى لأن عدوى كورونا حتما ستصيبها وتنال منها فى الحال بسبب كثرة المرضى بهذا الوباء الوافد بطغيانه فى المستشفيات أو الاختلاط مع الزائرين. مع النصح بتجهيز شبه مستشفى صغير فى البيت من أطباء وتمريض وهذا ماكان. حيث كانت الجراح والأحزان عميقة والامال فى الشفاء متراجعة وأسابيع وأشهر الغيبوبة تتسع وتنال من الجسد الوهن الذى تحول الى مايشبه الهيكل العظمي. وماسببه هذا المشهد اليومى من قلاقل وطوارئ فى عائلتى الكبيرة والصغيرة التى كانت تزورها الهواجس والمخاوف كل ساعة مع القادم الآتى بشأن تطورات الحالة الصحية. التى كانت تتراجع بين الفينة والأخرى فى شكل رسم بيانى شهرى وأسبوعى حتى وصلنا الى لحظة الحقيقة النهائية بإعلان الوفاة وتسليم الروح الى بارئها الساعة التاسعة و٣٥ دقيقة ليلة الثلاثاء الماضي.

وبقدر تكرار الهجمات المتكررة للمرض وشدة وطأته المؤلمة إلا أن زائر الموت فى العام الثانى برغم محاولاته عديد المرات للنيل منها لم يتمكن الا فى المرة الأخيرة حيث كانت إرادة الله. وحدث الاختراق الأخير فى الليلة الموعودة التى كنت من أسف أول من تنبأت فى العائلة بها واقتراب دنو الأجل وهذا ماحدث بالفعل. وكانت شواهدى على تلك النهاية المفجعة ذلك الحدس الشخصي. حيث لأول مرة فى آخر لقاء تلتقى عيون أمى بعيونى وتستفيق بشيء قليل من الوعى لأول مرة وتنظر لى وتحدق النظر الى شخصى طويلا وتستفيق لفترة قليلة من الوقت وكأنها تهلل بداخلها لرؤيتى ويعلو وجهها ابتسامة سريعة. وكأنها تريد أن تقول لى إنها المرة الأخيرة التى سأراك فيها وان تلك الصحوة الفجائية ولفترة قليلة من الوقت كانت لحظة الوداع الأخير. وهذا ماحدث بالفعل حيث كانت إرادة الله بعد ذلك نافذة.

بكل تأكيد كل لحظات الموت مفجعة مزلزلة إلا أن أصعب لحظتين واجهتهما فى رحلة أمى الطويلة مع المرض كانت بعد الوفاة مباشرة. الأولى التى ضربتنى بقوة وخلعت قلبى فى أثناء دخولها القبر حيث كنت أقف على رأس القبر وبينى وبينه اقل من عدة سنتميترات وأنا أتابع الرحلة الأخيرة لحياة ومسيرة الوالدة التى انتهت بها الى هذا المطاف الأخير. حيث اللحظة قاسية موجعة تبكيك وتشل قدراتك وتضرب قوتك وتخور إرادتك ويقفز الى ذهنك فى الحال طيف الإحساس بانعدام وعبث الحياة وقسوتها. مع الولوج سريعا الى اللحظة المؤلمة التى تتيقن انك صرت وحيدا عاريا تركتك أمك وغادرت الى العالم الآخر، وانه سيكون من الصعب والمستحيل أن تكمل الحياة من بعدها حيث تهاجمك كل الأحزان والهواجس والمخاوف وتنال منك فى الحال.

أما اللحظة الثانية والأشد إيلاما وان كانت اقل وطأة فهى تلك التى تهاجمك بعد أن تنتهى مراسم التعزية على القبر او من خلال تقبل التعازى والمشاطرات طيلة اليوم الأول والثانى من الوفاة. عبر اللقاءات المباشرة أو الاتصالات الهاتفية وينفض الجميع من حولك وتخلد الى نفسك. حيث يبدأ بعدها الحزن الأكبر حيث تستفيق على الحقيقة الكارثية أن أمك قد رحلت بالفعل وأنها لحقت بوالدك الذى خطفه زائر الموت منذ سنوات طويلة. وعندها يداهمك الإحساس والشعور القاسى انك من الآن مهما تبلغ من العمر صرت وحيدا بلا أب أو أم. وكم هى الحياة قاسية.! وربما تزداد مخاوفك وهواجسك التى ربما تكون فى معظمها تخيلات وتتساءل عن عفو خاطر من سيقف بجانبك ويسد عنك ضربات القدر التى ربما تزورك أو تنال منك فى قادم رحلتك مع الحياة. حيث كانت الوالدة تتشارك معى بعين فاحصة وتراكم خبرات الحياة بالرأى والمشورة بجانب المساندة المعنوية والروحية والشغف بتخفيف الآلام وصد رياح تقلبات الحياة وعواصفها التى تواجه المرء أحيانا.

ناهيك عن الإحساس بفيض الحزن والألم النفسى وأنت تعيش لحظات مابعد الفراق وأنت تخلد الى ذاتك لتراجع شريطا طويلا من الحياة التى توالت فصولا بعلاقتك بأمك منذ الميلاد حتى لحظة الموت الأخيرة. ومغادرتها الحياة نهائيا بلا عودة. حيث تداهمك وتتراى أما عيونك وتجول بخاطرك قصص وحبكات وتفاصيل يستحيل أن تعبر أو تمر مرور الكرام دون أن تتوقف عندها ويزورك دمع العين دون توقف للحظات طويلة. مع طول الاستحالة بالتصديق أو القبول بان الأم قد رحلت نهائيا وان هذا التيه البائس صار حقيقة. وانك من الآن صار لزاما عليك أن تستعد لقتامة وقسوة هذا الإحساس والشعور القاتل بأنك صرت بلا أم. وربما يعتريك للحظات من أسف طويلة بعض الشيء خضات نفسية بأن رصاصة الرحمة قد أطلقت على كل أحلامك القادمة فى الحياة بعد زلزال الموت والفقدان لأعز الناس لديك.

حسنا صدق كل الذين سبقونا بالقول إن فقدان الأم بعد الأب هو طعنة نجلاء وقصما لظهر المرء منا ستفقده كثيرا من بهجة الحياة وشغفها العائلى. خاصة عندما يكون الفراق صعبا مؤلما يحتاج المزيد من الصبر والثقة والطمأنينة من الله. انهما فى مكان أفضل فى الفردوس الأعلى وهذا هو دعائى طوال الوقت من رب العالمين.


لمزيد من مقالات أشرف العشرى

رابط دائم: