قدم رجاء النقاش للثقافة المصرية أعمالا خالدة أصيلة وإبداعية عن نجيب محفوظ متمثلة فى عشرات من الدراسات النقدية لمختلف أعماله موجودة فى بطون المجلات العامة والمتخصصة وفى الكتب التى أصدرها. غير أن الأهم من ذلك عملان أساسيان يمثلان مصدرين من مصادر دراسة نجيب محفوظ لا غنى لمتخصص فى أدب نجيب محفوظ أن يلم بهما إلماما كاملا. العمل الأول هو إصدار عدد خاص عنه فى مجلة الهلال بتاريخ 1 فبراير 1970 عندما كان رئيسا لتحريرها وفيه أدخلنا برفق الى عالم نجيب محفوظ الذى كان دائما يوثر الخصوصية فى حياته الشخصية. والثانى هو كتاب “ نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته, مركز الأهرام للترجمة والنشر, مؤسسة الأهرام, الطبعة الأولى 1998. استخدم فيه رجاء النقاش أسلوبا جديدا فى تقديم سيرة حياة نجيب محفوظ من خلال حوارات موسعة معه تتناول بالتفصيل كل حياته وأدبه ليصدر الكتاب نتيجتها مقدما لنا كنزا ثمينا عن شخصية محفوظ وأدبه. الكتاب لم يغادر صغيرة ولا كبيرة فى حياة محفوظ إلا أحصاها, ومن هنا خرج الكتاب شاملا ومرجعا أساسياعالميا عن محفوظ. ويا ليت وزارة الثقافة تقوم بترجمة العملين.
يقول رجاء النقاش فى مقدمة الكتاب: لا أظن أننى عانيت فى حياتى الثقافية كلها مثلما عانيت فى إعداد هذا الكتاب.. وقصة هذا الكتاب تبدأ عندما عرض على مركز الأهرام للترجمة والنشر فكرته فى أوائل سنة 1990. وعندما استمعت الى الفكرة رحبت بها وتحمست لها أشد الحماس”. عندما عرضت الأهرام الفكرة على نجيب محفوظ رحب بها ورشح رجاء النقاش لإجراء الحوارات الشاملة معه. يقول رجاء النقاش: فى أول أغسطس 1990 بدأت لقاءاتى مع نجيب محفوظ. :كنت أطرح عليه السؤال فيجيبنى بصبر شديد ورحابة صدر كاملة وتوضيح لكل استفسار من أى نوع.
وكنا نلتقى فى الصباح الباكر فى حدود الساعة الثامنة ونواصل هذا اللقاء ما يقرب من ثلاث ساعات واستمرت هذه اللقاءات حتى أواخر 1991, وكنت ألتقى نجيب محفوظ فى هذه المواعيد أربعة أيام فى الأسبوع فى مقهى على بابا بميدان التحرير. توافر لى من هذه التسجيلات ما يقرب من خمسين ساعة كاملة ومنها صدر هذا الكتاب كما سمعها رجاء النقاش مع تلخيص أسئلته فى مقدمة كل فصل من فصول الكتاب, بالإضافة الى تلخيص آخر لمضمون كل فصل.
يقع الكتاب فى 376 صفحة تمثل 24 فصلا هى مجمل حياة نجيب محفوظ رحمه الله وتشمل مراحل الطفولة والشباب ومولده فى بيت القاضى وأمه التى يصفها محفوظ بأنها كانت سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب ومع ذلك كان يعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية وأنها كانت تصحبه كل يوم لزيارة الحسين. يقول عن والدته: إنها كانت دائمة التردد على المتحف المصرى وتحب قضاء أغلب الوقت فى حجرة الموميات ولا أعرف السبب ولا أجد التفسير لذلك.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير مارجرجس وتأخذ المسألة على أنها نوع من البركة، ومن كثرة ترددها على الدير نشأت صداقة بينها وبين الراهبات وكن يحببنها جدا. وذات مرة مرضت والدتى ولزمت البيت وفوجئنا بوفد من الراهبات يزرنها فى البيت وفى ذلك اليوم حدث انقلاب فى شارع رضوان شكرى لأن الناس لم يروا مثل هذا المنظر من قبل. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين ومارجرجس فى نفس الوقت تقول كلهم بركة, وتعتبرهم سلسلة واحدة. والحقيقة أنى تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصرى لم يعرف التعصب, وهذه هى روح الإسلام الحقيقية. الى جانب والدته تحدث نجيب عن والده وأخويه وأخواته الأربع. يشخص مجمل طفولته بقوله: أستطيع القول بأننى عشت طفولة سعيدة لولا بعض المنغصات مثل الكتاب والحزم وسياسة الشدة من الوالد.
يقول عن والده إنه كان صديقه فى مرحلة الجامعة وإنه كان يطلب منه دعوة أصدقائه ليصطحبنا الى نادى الموسيقى فى عابدين. يصف العلاقة بين والديه بأنها كانت مثالا للاحترام والحب وأنها كانت خالية من الشجار وأن والدته كانت تحترم والده وكانت تقف وهو خارج من البيت أو داخل إليه وتساعده فى ارتداء ملابسه وتعتنى بطعامه وشرابه.
يحدثنا محفوظ أنه زار الريف مرة واحدة ولم يزر الصعيد أبدا ويقول عن ذلك إنه هو السبب الحقيقى الذى جعله لا يتناول حياة الفلاح وقضاياه فى رواياته بعكس الطبقة العاملة المسحوقة فى المدينة والتى تناولها كثيرا فى رواياته
الفصول الأخرى للكتاب تشمل الوظيفة التى استغرقت 37 سنة وأنها أمدته بنماذج بشرية شملت العديد من كتبه وفصلا عن دراسته الفلسفة واختياره لطريق الأدب وكيف اختار الرواية بالذات رغم أنه كان يحب الشعر ويكتبه وفصلا عن أساتذته الذين علموه وآخر عن معارف من الأدباء وفصلا عن أهل الفن وآخر عن الحرافيش وشلة العباسية وفصلا عن النساء فى حياته وفصلا عن عالم السينما وفصلا عن متاعبه مع السلطة وآخر عن رواية أولاد حارتنا وفصلا عن أول جائزة تلقاها وهى جائزة قوة القلوب وثورة 1919 وثورة 1952 وزعماء مصر وذكرياته مع المظاهرات وعن الروايات التى أثارت أزمات وعن المذاهب السياسية وعن النكسة والحلم الذى هوى والتطرف الدينى والله والإنسان وأزمة الخليج والمأزق العربى وفصلا بعنوان متفرقات، وأخيرا كان الفصل الأخير عن جريمة الاعتداء عليه يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994. رحم الله العبقريين محفوظ فى عيد ميلاده العاشر بعد المئة ورجاء النقاش.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: