رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الديان لا يموت

ولادى وحشونى أوى، بتلك الكلمات الآخذة الآسرة، بدأت سيدة قالت إنها تجاوزت الثمانين ببضعة أعوام رسالتها، عبر إحدى الفضائيات المصرية، وهى تشكو للمشاهدين، هجر أولادها وافتقادها لهم، وهى فى عمر قلت فيه حيلتها، ووهنت صحتها، وشاخ جسدها، وباتت فى أمس الحاجة لمن يرأف بحالها، ويقوم على خدمتها، وإن لم تصرح بهجرهم، إلا أن ذلك ما تبين من سياق حديثها، حينما قالت إنها لم تشاهدهم منذ شهور، هذه الفاضلة الكريمة، لم تستطع إعلان جفاء أولادها لها، لأن قلبها مملوء بالرحمة، لم يتخيل أن يُقابل حنانه بهذا السفور الفج.

مشهد لا تتعدى مدته دقائق قليلة للغاية، كان كفيلا بإبكاء كل من يشاهده، ولا أبالغ حينما أقول إنه مشهد يدمى القلوب، ويجعلها تقطر دماً، لأنه وضع قيمة الأمومة بعظمتها، وإجلال القرآن لها «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُا وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِير»ُ، لقمان الآية 14 فى مقارنة مع جرم الأبناء غير المقبول.

وكنت دوما أسال نفسى لماذا يوصى الرحمن الإنسان بوالديه، ولم يوص الوالدين بالأبناء، حتى فهمت المغزى، فسبحانه وتعالى زرع الرحمة فى قلوب الوالدين، وجعل الأبناء من زينة الحياة الدنيا، وتلك الزينة خلق الله معناها فى وجدان كل بنى آدم، فيشتاق للذرية، وحينما يرزقه الله بها، ينبت فى جسد الآباء الحب والعطف والحنان والتضحية والفداء، وكلما كبر الجسد، كبر النبت بوتيرة أسرع، لذلك عشق الآباء للأبناء يستمر مشتعلاً حتى الرمق الأخير من العمر.

وهذا ينقلنا للآية الكريمة «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً»، «الإسراء الآية 23»، هذه الآية الكريمة وضعت كل النقاط على الحروف، فى علاقة الأبناء بالآباء.

ففى عدد من التفاسير، أوضحت أن سبب نزولها، أنه عندما أسلم سعد بن أبى وقاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وما أدراك ما معنى أن تُبشر بالجنة، فاعترضت والدته ووضعت نفسها متجردة فى الرمضاء، وكان رده، فلتمت، دلالة المعنى رائعة، حيث قرر الرحمن، رغم محاولتها إثناء ولدها عن دخول الإسلام، أن يجبر سعد بن ابى وقاص على البر بوالدته، فى أمر غاية فى الوضوح، حيث قال سبحانه وتعالى، مع قضائه وتقريره بعبادته وحده لا شريك له، الإحسان للوالدين، وكانت واقعة سعد بن أبى وقاص فرصة للتدليل، وهو من المقربين للرحمن، لذلك بشره بالجنة، وتلك البشرى دليل مادى حى على مدى رضا الله سبحانه وتعالى عنه.فإذا كان هذا حال أحد أقرب المقربين من الله، فما بالنا بحال بقية العباد.

وهذا يحيلنا لبقية المعانى العظيمة فى الآية الكريمة السابقة، الإحسان للوالدين، و الإحسان كلمة عظيمة، لأنها تأتى من الحسن، ومهما فعل الأبناء فلن يستطيعوا أن يكون فعلهم أحسن من فعل الآباء، ومع ذلك قرر الله الإحسان، وأعقبه بأمره ألا تقل لهما أف، والغرض هنا، قطعية أمره بعدم التأفف، ، فالتأفف شعور سلبى لم يصل للفعل، حتى هذا الشعور، نبه الله على عدم وصوله للآباء.

ثم أمر الله، بخفض جناح الذل من الرحمة، وهو أمر لم يقرره إلا للوالدين، لما لهما من فضل عظيم، يعلم قيمته من خلقنا، وهو أعلم بنا.

هذا عن حياتهم، أما بعدها، فقرر الله بالدعاء لهم، وحدد الدعاء، برب ارحمهما كما ربيانى صغيراً، وهو دعاء شامل كامل، يركز على ما فعله الآباء فى أثناء تربية الأبناء وما بذلوه من جهد، يستحق الثناء وأن يتذكره الأبناء، وضرورة تذكر ذلك الجهد على مدار حياة الأبناء بالدعاء بالرحمة للآباء.

ولتعلم أن الدعاء بالرحمة للآباء هنا ليس تفضلا من الأبناء على آبائهم، ولكنه فرض فرضه الله على العباد، إجلالاً لقيمة وقدر الآباء، لذلك ليكن من المعلوم، أن عاق الوالدين لن يدخل جنته، أن تحاجج والديك، عقوق، بمعنى أن تقيم عليهم الحجة، لينتصر رأيك فى حالة وجود خلاف فى الرأى، أن تُقصر فى واجباتك نحوهم عقوق، أن تهمل خدمتهم عقوق.

هناك أبواب فتحها الله سبحانه وتعالى للرزق، وكذلك للرحمة، أجمل هذه الأبواب، هو باب بر الوالدين، خلفه كنوز لا حصر لها، حينما ترحم إنسان بحيوان أدخله الله الجنة، فما بالك لو ترحم بإنسان، وما بالك لو ترحم بآبائه.

بتنا نشاهد فى الآونة الأخيرة، مشاهد مؤلمة لعقوق الأبناء، مشاهد تجسد أن قلوب هؤلاء نُزعت منها الرحمة، وسكن مكانها الشيطان، نعم سكن مكانها الشيطان، الذى تمكن من أن يجعلك تعصى أمر الله ليكون ذلك سبباً فى دخولك النار بدل الجنة.

من مات أحد أبويه أو كلاهما، غضباناً عليه، فلينتظر مقعده فى النار، ومن كان أحدهما أو كلاهما على قيد الحياة فلينتهز هذه الفرصة الثمينة، لينال رضاهم، بكل ما أُتى من قوة.

لأنه يفتح أبواب الرزق و السعادة والهناء فى الدنيا والآخرة، و يتبقى الإشارة إلى أن من يُدين يُدان، والديان سبحانه وتعالى، حى لا يموت.

[email protected]
لمزيد من مقالات عماد رحيم

رابط دائم: