رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

زيارة سامية محرز .. العزيزة

من الصعب توصيف الأثر الذى تركه كتاب سامية محرز «ابراهيم ناجى .. زيارة حميمة تأخرت كثيرا»، لأننا أمام عمل يتجاوز زيارة حفيدة ولدت بعد رحيل جدها بعامين، ويتجاوز فكرة إعادة كتابة السيرة الذاتية لشاعر عظيم عانى كثيرا، وربما أكثر من اللازم، ويتجاوز أيضا الرد على الذين زيفوا مسيرة الرجل، ولكننا أمام كتابة عن زمن وجغرافيا وأجيال وبيروقراطية وأشواق مكبوتة ومناخ ثقافى ونكران وهزائم وانتصارات صغيرة وشجن وتغيرات اجتماعية عنيفة، كتابة عفية تعيد صياغة لحظات من التاريخ بحميمية وبدون ادعاء، الكتاب هو الأول باللغة العربية لأستاذة الأدب العربى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سامية محرز، والتى لم تكن مغرمة منذ طفولتها بالأدب العربى بسبب تربيتها فى المدارس الفرنسية والإنجليزية، وبسبب سخرية أقرانها بعد معرفتهم أنها حفيدة الشاعر الذى كتب قصيدة العودة المجعلصة المقررة عليهم، التحقت بالجامعة الأمريكية سنة1972 بقسم الأدب الإنجليزى، وتتلمذت فيما بعد على يد الدكتورة فريال غزول التى حببتها فى بدر شاكر السياب وإميل حبيبى وعفيفى مطر ومحمود درويش وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطانى وغيرهم، وفى 1979بدأ مشوارها مع الدكتوراة فى أمريكا، ووقع اختيارها على رواية الزينى بركات لجمال الغيطانى، ليس بسبب انبهارها بالبنية والتقنية واللغة كما قالت، « وإنما لأنها كانت العمل الذى فرض على فرضا قراءة التراث أو البعض البسيط منه»، كانت ترى أن الغيطانى وجيله (جيل الستينيات) كانوا لا يزالون مجهولين فى الأكاديمية الأمريكية، التقت الغيطانى فى إحدى زياراتها للقاهرة لأول مرة فى منزل أسرتها سنة 1981، والذى استوقفته صورة إبراهيم ناجى (1898ـ 1953) الكبيرة فى الصالون، فسألها : «بيعمل أيه عندكوا؟»، وعرف أنه جدها لأمها، وقال لها قبل ان ينصرف: «تصدقى أنتى شبه جدك بالضبط»، غضبت كثيرا واستاءت، بعد أن غادر جمال وقفت تتأمل الصورة التى لم تكن تستوقفها قبل ذلك وكانت تعتبرها مقحمة على صالون أهلها البرجوازى بسبب المبالغة فى تكبيرها، وقالت لنفسها «أنا شبهه؟ ازاى يعنى؟»،» صحيح أننى ضئيلة الحجم مثله، ولكن أين أنا من صلعته العريضة ونظرة عينيه الساهمة وأنفه الضخم وشفتيه الغليظتين!»، تطل جملة الغيطانى كثيرا فى الكتاب، الذى أرخ لأسرة ناجى وتشعباتها، فى شبرا ومصر الجديدة والزمالك، ونجحت محرز فى استعادة تفاصيل العالم القديم بحميميته وبراحة علاقاته الاجتماعية، مستعينه بما كتبه جدها، وبذكريات طفولتها وبجهد بحثى يخدم السياق العام للكتاب بدون إسراف، أنجب ناجى ثلاث بنات، أميرة متعها الله بالصحة والعافية المولودة فى بيت جدها بشبرا سنة 1932(وهى شخصية فى غاية العذوبة وأنيقة تسبقها ابتسامتها دائما)، وضوحية التى ولدت بعدها بعامين فى مصر الجديدة التى رحلت فى المهجر بكاليفورنيا فى 2012، ثم محاسن الصغرى التى رحلت وهى فى الثامنة والعشرين من عمرها وتركت طفلة لم تتمكن جدتها من رؤيتها، حين ماتت ضوحية ذهبت المؤلفة إلى أمريكا لتكون إلى جوار شهيرة ابنة خالتها التى كانت وحيدة فى الغربة، وبعد انتهاء الجنازة، تم جرد شقة الراحلة ومحتوياتها من أثاث وملابس وأوراق وصور وما إلى ذلك، تبرعتا للجمعيات الخيرية بمعظم الأشياء، وأثناء الفرز وجدتا مظروفين مغلقين يحتويان على مذكرات إبراهيم ناجى تحتفظ بهما الخالة منذ أكثر من ستين عاما، عادت بهما سامية إلى القاهرة، وكان من ضمن الأوراق عقد بيع مؤرخ بعد وفاته بعامين، ينص على بيع مكتبات ناجى فى المنزل وعيادة شبرا بسبعين جنيها لرابطة الأدب الحديث، وأن المبلغ  سيوضع فى المحكمة لتسديد ديون الجد التى صدرت فيها أحكام نهائية، ويستعرض الكتاب الكنز الذى دفع المؤلفة لإنجاز هذا العمل الكبير، بينها 28 خطابا مؤرخا بين عامى 1928 و1929، بعضها كتب على روشتات عيادة ناجى فى المنصورة، وبعضها على ورق مراسلات القسم الطبى بسكك حديد مصر حيث كان يعمل، وهى خطابات حب من ناجى لزوجته، التى ارتبطت بطبيب شاب « ولهان يمطرها كلاما معسولا بدلا من أن يكون زوجا»، مذكرات ناجى التى كشفت عن ثقافته العريضة واهتماماته المتنوعة ومعاناته مع الوظيفة، كشفت الأكاذيب التى روج لها بعض الكتاب وعلى رأسهم صالح جودت، وخصوصا علاقاته النسائية، والتى يضيق المكان بمناقشتها، كل ما يهمنى هو ناجى المثقف الذى يجيد أربع لغات، صديق شكسبير ومترجم أغنياته (أو سونيتاته) وبودلير والأدب الإنسانى كله، الفنان الموهوب الذى يحاضر فى الأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والطب ولا يهدف إلى الربح، المسرف، المديون، المريض، الذى يحاربه المحافظون فى الوسط الثقافى لأنه يكتب شعرا مختلفا، ويحاربه الموظفون فى الحكومة لأنه أديب، مريض السل الذى تعافى بصعوبة، مريض السكرى الذى لا يكف عن الترجمة فى شتى المجالات، الوحيد، المزدحم بالتفاصيل والأحزان والأشواق، القاص والروائى، حكيم العائلة الذى لا يتعامل مع المريض كحالة ولكن كإنسان، الأب الحنون، العاشق التى تغزل حوله الأساطير، ضحية البيروقراطية وضيق الأفق، الذى يسعى لخدمة المجتمع لأنه يحب الناس والوطن، المؤثر فى حياة المرضى وأدباء المهجر والشعراء العرب، الطبيب الذى مات فى عيادته، الحزين على ما آلت إليه الأمور، نجحت سامية محرز فى زيارتها الحميمة لجدها ان ترسم صورة شجية لشخص عظيم تم اختزال مسيرته فى قصيدة غنتها الست أم كلثوم، الكتاب الجميل بمثابة إعادة اكتشاف لناجى العظيم .. وأيضا لحفيدته.


لمزيد من مقالات إبراهيم داود

رابط دائم: