رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نحن وجريمة الإسماعيلية

حتما الجريمة فعل قبيح محمل بالشر والتآمر والخسة، لكن ثمة جرائم زاعقة، قدر الخسة فيها والسفالة يفوق قدرة النفس السوية على تصور وقوعها، ومنها جريمة الإسماعيلية، وشرها المفعم ليس فى القتل، وإنما فى إصرار القاتل على قطع رأس القتيل، ونزعها متجولا بها فى الشوارع كما لو أنه يتباهى بفعلته بين الناس.

 والقتل عموما فعل قديم روته كتب السماء، حين قتل قابيل أخاه هابيل وفتح باب الدم على مصراعيه، دون أن يتأثر قابيل  بأفلام عنف وإثارة فيقلدها، أو يدمن نوعا من المخدرات الطبيعية يصيب عقله بالهلاوس، أو تحرضه أنثى فاتنة..الخ، كما لو أن قابيل ولد مجرما وارثا العنف فى جيناته. وبالفعل يرجح بعض علماء الاجتماع الخلل الجينى فى تفسير تلك الجريمة، ولم يكتشف العلم حتى هذه اللحظة كيفية «حدوث الخلل الجيني»، وهو متكرر طول الوقت فى كل الكائنات الحية.

وقد تستوقفنا وجهة نظر الفرنسى «دافيد إيميل دوركايم» أشهر علماء الاجتماع، ويرى الجريمة ظاهرة اجتماعية طبيعية، تشيع فى كل المجتمعات، على اختلاف درجة تطورها وحجمها، وليست فعلا شاذا، لكن حين تتجاوز المستويات المألوفة تصبح ظاهرة شاذة وغير سوية..وهو ما ينطبق على جريمة الإسماعيلية.

وتعالوا نفك عناصر الجريمة التى وقعت على الملأ فى الشارع، وتابعها المجتمع كله تقريبا، أى جريمة مشاع، وصرنا جميعا طرفا فيها بشكل أو بآخر.

الجريمة لها ثلاثة عناصر، القاتل، الجمهور المباشر، والمجتمع من شرطة وإعلام وبقية الجمهور.حين يسفك قاتل دم ضحية فى شارع عام مستحيل أن يخلو ذهنه من عنصرين مهمين، وهما الشرطة سلطة الضبط، والجمهور شهود الجريمة..ويبدو أن عدم تقديره لهما أو غياب إحساسه بهما أيا كان السبب، هو الذى قاده إلى حد إصراره على قطع الرقبة ونزعها متجولا بها فى الشارع.. طبعا لا يمكن إغفال تحدى القاتل للمجتمع واستهتاره بالقانون، نعم قد يعظم المخدر الذى يتعاطاه هذا الإحساس داخله، لكن الإحساس راسخ فى وعيه الداخلي، والمخدر كان مثل حك المصباح السحرى فخرج عفريت إحساسه عملاقا ينفذ له رغباته إلى حد التفاخر. ومعروف أن ثلاثة أرباع تنفيذ القانون فى الخوف منه وعمل حسابه فى أى تصرف عام، فليس فى قدرة وزارة الداخلية ولا أى جهاز شرطة فى العالم تخصيص شرطى لكل مواطن، سواء لحمايته أو لمنعه من الخروج على القانون، وإذا قل هذا الخوف أو اضطرب، يتجرأ السفلة على المجتمع.

وإذا راجعنا تاريخ ذلك الحى من مدينة الإسماعيلية، فسوف نكتشف أن عنفا يعشش فيه، واستشهاد ضابطين قبل شهر فى مواجهة مسلحة مع تاجر مخدرات وأسلحة فاضح لمدى  هذا العنف، وكاشف أيضا لأمر شديد الخطورة وهو تمتع الحى بقدر من الحرية، حتى إن رجال الشرطة الذين ذهبوا للقبض على تاجر الممنوعات فوجئوا بإطلاق الرصاص عليهم، أى أن التحريات عن الحى ودروبه ومخاطره لم ترصد تفاصيل اختبائه رصدا يمكن قوة الضبط من حساب ردود أفعاله وتحركاته، فكان سقوط الشهيدين وإصابة جنديين عندما بادر بإطلاق النار على رجال الشرطة قبل أن يردوه قتيلا. ويبدو أن فكرة القانون نفسها غائمة فى عقول بعض سكان المنطقة، من الذين يرون فى أنفسهم قدرة على تحديه.

أما الجمهور المباشر فقد تصرف مثل جحا، وعمل نفسه من بنها، وترك القاتل يكمل جريمته إلى نهايتها وسيفه أو ساطوره فى يده، لكن ليس هذا مبررا أن يتابع الناس جريمة علنية، كأنهم يشاهدون فيلما أو مشهدا مسرحيا، يتعجبون من أحداثه، دون إيقافه. قطعا قال كل واحد فى سره: وأنا مالي، وخاف أن يناله من القاتل طعنة تودى بحياته، ألم يُصبْ شخصين أيضا فى طريقه؟ قطعا  تصرفات الناس وسلوكياتهم العامة مرتبطة بصور فى أذهانهم عن المجتمع والقانون، ودون أن يغضب أحد أو ينكر، اقتحمت الشارع المصرى منذ سنوات طويلة  مظاهر فوضى، قد تكون مظاهر صغيرة لكنها مؤثرة فى تشكيل الصورة الذهنية فى عقول الناس، لأنها  دائمة وتتكاثر وتطاردهم يوميا، خناقات بلطجية، تكاتك وميكروباصات بلا لوحات معدنية أو تراخيص قيادة، خاصة فى الشوارع الداخلية للأحياء الشعبية القديمة أو العشوائية، بل إن سائقى هذه التكاتك والميكروباصات يمارسون نوعا من العربدة والوقاحة على الطريق ومع الناس، وكثير من أرصفة شوارع المدن ومساحات منها تكاد تختفى تحت «مخالفات» تخرق عين الشمس من المقاهى والمحال والباعة الجائلين والجراجات العمومية، وحين استنجد الأهالى بالقانون وتعلقوا به، لم يجدوه سيفا باترا فى أيديهم، وجدوه حبالا طرية أسقطهم فى قبضة المخالفين. ومن يتخيل أنه لاعلاقة بين الجريمة وهذا النوع من المخالفات، يتعمد الإهمال ومنح هذه المخالفات فرض الأمر الواقع بالإكراه، فالقانون فكرة وإدراك عام قبل أن يكون إجراءات تنفيذية. أما الجانب الآخر من المجتمع وهو الإعلام، فكان تعامله مع الجريمة إعلانا صارخا بأزمته المهنية، إعلام يفتقد الرؤية والوعى إلا قليلا، سواء كان إعلاما مكتوبا أو مرئيا، وحفر حكايات مملوءة بالمطبات والخطايا، فقد صدر للرأى العام أنها جريمة شرف، وأساء إلى عائلات لمجرد أن شاهدا قال كلاما غير منطقي، دون أن يتحقق من القول، ولم يقدم لنا صورة قريبة لحقيقة القاتل من الطبيب الذى عالجه من الإدمان لنعرف حالته النفسية ونوع المخدرات، ولا دقائق حياته من أقرب أصدقائه ومعارفه وليس من الذين يعرفونه من بعيد لبعيد، ولم يصل إلى «تفاصيل» علاقته بالضحية وسبب الخلافات، وهى معلومات يسهل الوصول إليها بالبحث الجاد وطرح الأسئلة الصحيحة، لكنه للأسف رسم صورة غائمة غامضة ، فيها من الثرثرة أكثر مما فيها من الحقائق.

نعم هى جريمة فردية، لكنها جريمة مفتاح، تفسيرها العام أهم من تفاصيلها.


لمزيد من مقالات نبيل عمر

رابط دائم: