هذا هو زمن الأهداف العظيمة، بمعني أنها لا تري هدفا مهما يكن علوه بعيدا عن الإمكان مادام هناك عزم في اتخاذ القرار وطاقة عمل كافية لتحويل القرار إلى واقع. عشت الأزمنة التي كان فيها تطوير منطقة الأهرام مشروعا على الورق استحال تنفيذه، وفي مجلس الشورى المصري وحده كان هناك ١١ مشروعا لتعمير سيناء، غير عشرات أخري في مجلس الشعب ومجلس الوزراء وفي المجالس القومية المتخصصة كان هناك عشرات غيرها. لم يعد ذلك ممكنا إلا عندما بدأ حفر ستة أنفاق كاملة بين سيناء والوادي، وبدأت مدن تنمية شرق قناة السويس ترتفع أبنيتها، ولم تعد هناك نقطة في شبه الجزيرة يتعذر الوصول إليها. قس على ذلك كثير الحديث عن الوادي الجديد، وتعمير الساحل الشمالي، وتنمية الريف المصري، ولاحظ ما يحدث فيه حاليا. لذلك فإن حلم الوصول إلى صادرات مصرية قيمتها ١٠٠ مليار من الدولارات ليس بعيد المنال، وفي الحقيقة فإنه في متناول اليد. شجعني على الوصول إلي هذا الاستنتاج تقرير لإدارة مراقبة حسابات الصناعات المعدنية بالجهاز المركزي للمحاسبات يقر فيه أن إجمالي حصيلة الصادرات التي قامت بها شركة العز الدخيلة للصلب، وشركة العز لصناعة الصلب المسطح التابعة لها بلغت مليارا وثلاثة عشر مليون دولار أمريكي. اللافت للنظر هنا أن الصادرات المصرية دخلت في حالة منافسة في إيطاليا حيث تعدي حجم الصادرات ٢٨٨ مليونا، وإسبانيا ٢٧٩ مليونا، والولايات المتحدة ١٤٠ مليونا، والسعودية ٨٨ مليونا، وكندا ٥٥ مليونا، والبرتغال ٤٢ مليونا، والبرازيل ١٨ مليونا، والمانيا ١٣ مليونا، وهكذا دول عديدة حتى تتجاوز المليار. والحقيقة أنه رغم الحديث الكثير عن تجاوز الصناعات الرقمية من حيث القيمة التجارية الصناعات التقليدية مثل الحديد والصلب والألمومنيوم والأسمدة وأدوات البناء المختلفة، فإن الثابت هو أن هذه الصناعات سوف تظل معنا لمدد طويلة مقبلة. وبالنسبة لصناعات الحديد والصلب تحديدا فإن دخولها الواسع النطاق في عمليات البناء والبنية الأساسية جعل وجودها أكثر إلحاحا من أي وقت مضي.
وهكذا إذا كانت هناك إمكانية لكي تحقق شركة واحدة مليار دولار خلال الفترة من ١ يناير ٢٠٢١ حتى ٣٠ سبتمبر ٢٠٢١، أي تسعة شهور فقط، فإن المطلوب هو أن يكون لدينا ١٠٠ شركة مماثلة في الكفاءة والقدرة، حتي نحقق في أسرع وقت ممكن هدف ١٠٠ مليار دولار صادرات. هنا لا يهم إذا كانت الشركات عامة أو خاصة، مادامت لديها الكفاءة والإدارة اللازمة للإنتاج والتحرك في السوق الدولية والمنافسة مع عشرات وأحيانا المئات من شركات الدول الأخرى. وفي الحقيقة فإن منافسينا في المرحلة الراهنة ليس الدول المتقدمة التي بيننا وبينها عقود من التقدم الصناعي والتكنولوجي. منافسونا الأساسيون هم الدول النامية التي كانت حتى عقود قليلة سابقة واقعة فيما كنا فيه من احتلال وقسوة في العيش والحال. النموذج الفيتنامي يمثل التجربة في دولة عاشت فترة طويلة في أتون الحرب، سواء على المستوى الداخلي أو في المجال الخارجي، فهي دولة شهدت صراعات عنيفة أدت إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي في منطقة شرق آسيا، ونتج عنها تدمير لبنيتها الأساسية وإهدار لمواردها القومية وتشويه لهيكل توزيعها السكاني. وهناك تقديرات تشير إلى أن من سقط من قتلى في فيتنام بلغ ٤ ملايين، وعدد الجرحى نحو ٦ ملايين وذلك خلال فترة (١٩٤٥-١٩٧٥). وبعد استقلالها وانتهاء الحرب الأمريكية الفيتنامية، واجهت فيتنام أزمة اقتصادية حادة، حيث وضعت الحروب أعباء بالغة علي الاقتصاد، واعتمدت بدرجة أساسية على المساعدات السوفيتية. وطوال عقد ونصف العقد كانت السياسة الاقتصادية للحكومة الفيتنامية قائمة على أساس الاقتصاد الموجه والتخطيط المركزي، لكنه منذ 1986 تم الأخذ بسياسات الإصلاح الاقتصادي والتوجه نحو اقتصاد السوق وتشجيع قدوم الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، في إطار برنامج يعرف باسم «دوي موي» Doi Moi، ويعني الإصلاح أو التجديد. وفي هذا السياق، تطورت القوانين الحاكمة للعملية الاقتصادية، والمتعلقة بقبول قوى السوق كعامل حاسم للأسعار والإنتاج.
لم يمض أكثر من ثلاثة عقود إلا وأصبحت فيتنام جزءا من منظومة النموذج الآسيوي في التقدم الذي بدأته اليابان، ولم تنته به فيتنام، ولكنه قام أساسا ليس على إحلال الواردات، وإنما على التصدير الذي معناه المنافسة في الخارج، وفي الحقيقة هكذا يكون الداخل أيضا، في السلع والبضائع والخدمات. تحولت من دولة فقيرة خرجت منهكة اقتصاديا من حروب متقطعة، لتصل إلى دولة إقليمية ناهضة، وتمثل نموذجا للقدرة على تجاوز الماضي وعدم التجمد عند مرحلة تاريخية معينة، الأمر الذي يرتبط بالثقافة السائدة في المجتمع الفيتنامي، التي يأتي في قلبها ثقافة العمل وقيم الانضباط والمثابرة في التعليم. وفي مجال الصادرات حققت فيتنام هدف ١٠٠ مليار دولار تصديرا منذ عدد من السنوات، وهي تصدر للولايات المتحدة (التي احتلتها) بما هو أكثر من ٧٧ مليار دولار، والصين ٤٨ مليار دولار، واليابان ١٩ مليارا، وفي النهاية يتعدى إجمالي صادراتها ٢٢١ مليار دولار. فيتنام بالمناسبة مساحتها ثلث مساحة مصر تقريبا، وعدد سكانها يقتربون من ١٠٠ مليون نسمة، وناتجها المحلي الإجمالي يقارب الناتج المصري، ولكنها نجحت في التصدير لأنها أولا شجعت بشدة قطاعها الخاص، ومعه ثانيا شجعت الاستثمارات الأجنبية، وثالثا نوعت من اقتصادها، ويظهر ذلك في قائمة صادراتها حيث أكثر من نصفها (١١١ مليارا) من الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية، أما الآلات والسخانات فهي ١٨ مليارا، أما الأحذية والغزل والملبوسات فهي ٣٠ مليارا. هناك بالطبع بعض الصادرات التقليدية بما فيها القطن والقهوة والألعاب والزيوت والأسماك، ومن الحديد والصلب ٣ مليارات. وفي النهاية فإنه إذا كانت الأماني والأحلام ممكنة فإن ١٠٠ مليار دولار صادرات مصرية ليس صعب المنال.
لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد رابط دائم: