-
نشرت «الأهرام» ترجمته فى 1907 وفندته وعلقت عليه بشجاعة
-
أحد الظرفاء وصف المدعوين للحفل بأنهم «توصية» ساخرا من رد فعلهم على الخطاب
لَمّا رَحَلتَ عَنِ البِلادِ تَشَهَّدَت
فَكَأَنَّكَ الداءُ العَياءُ رَحيلا
أَوسَعتَنا يَومَ الوَداعِ إِهانَةً
أَدَبٌ لَعَمرُكَ لا يُصيبُ مَثيلا
هذان بيتان من قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى ردا على خطاب رحيل كرومر المهين المشهود بدار الأوبرا المصرية بتاريخ 4 مايو 1907 عقب استقالته. كان الخطاب مستفزا لمشاعر المصريين خاصة وثقافتهم ودينهم وحكامهم, وكان بمثابة إعلان حرب على الحركة الوطنية التى كانت أحد أسباب إقصائه وتقديم استقالته بتاريخ 17 أبريل 1907, ووصف رجالها بالعمى. كان غاضبا متهما المصريين بالجحود ونكران الجميل للاحتلال البريطانى وفضله فى انتشال مصر من مستنقع التخلف على حد كلمات خطابه.
ألقى الرجل خطابه بلا حياء وكان يتحدث بأسلوب ناعم كلماته جارحة كمخالب النسور كان فيه وكأنه يحمل عصا غليظة بها مسامير يضرب بها كل سامع بلا حياء, دون أى اعتبار للحضور من المصريين وفى مقدمتهم أفراد الأسرة الحاكمة, والتى لم يرقب فى وجودها إلا ولا ذمة ولا حضارة ولا كياسة ولادبلوماسية ولا إنسانية, فصال وجال وشتم الخديو إسماعيل وقد حضره أيضا رجالات الحكومة ودبلوماسيو الدول الأجنبية. كان الخطاب تفصيلا لسياسته التى اتبعها فى حكم مصر لمدة 24 سنة ساردا فيه سياسته وسياسة الاحتلال البريطانى.
ألقاه على حشد كبير يقدر بألف ومائتى مدعو. الغريب فى الأمر أنه لا يوجد نص كامل للخطاب على الإنترنت باللغة العربية, لا يوجد حتى فى كتب التاريخ الهامة مثل كتب عبدالرحمن الرافعي, وكل المتاح منه كلمات غير كافية هنا وهناك ويوجد باللغة الإنجليزية فى الأرشيف البريطانى فقط. نشرت الأهرام ترجمته بتاريخ 7 مايو 1907, وفندته باستفاضة وشجاعة وعلقت عليه بتاريخ 8 مايو 1907, ونشرت استطلاعها للقراء المصريين والأجانب بخصوصه.
إنه وثيقة تاريخية فريدة وهامة. أعطت الأهرام فى عددها بتاريخ 7 مايو 1907 وصفا كاملا يشبه اللوحة الزيتية لكبار الفنانين العالميين لحفل الوداع, يكاد يجعلنا من دقته حضورا لذلك الحفل التاريخى:
فى الساعة السادسة من مساء السبت الموافق 4 مايو 1907 احتفل بوداع اللورد كرومر فى الأوبرا الخديوية فوقفت ثلة من فرسان البوليس ومشاته أمام الأوبرا لحفظ النظام وتوافد الناس على المكان الذى نظم على طريقة مخصوصة لاحتواء 1200 مدعو. نصب فى صدر القاعة منبر، ولما وصل اللورد كرومر عزفت الموسيقى نشيد الملك وجلس اللورد كرومر وعن يمينه مصطفى باشا فهمى والكونت دى سريون وعن يساره السير ألدون جورست.
وفى لوج جلس سمو الخديو والليدى كرومر والليدى جورستوصويحباتما وإلى جانبه لوج قرينات قناصل الدول والى الشمال لوج الأمراء.
وبعد إلقاء خطبته تقدم من دولة البرنس حسين باشا فصافحه ثم صافح النظار وبعض الباشوات, وارتفعت أصوات الحاضرين بالدعاء فخرج من الباب الشمالى.
وقد قال أحد الظرفاء عن الموجودين إنهم «توصية», ولا شك عندنا بأن هذه العبارة تنطبق وتوافق الحقيقة، وهذا نص الخطاب:
حضرات أصحاب السعادة
والسادة الكرام.
أرجو أن تقابلوا أقوالى بالحلم والتغاضى لأن خطابى هذا يكلفنى جهدا عظيما جسديا وأدبيا. أما جسديا فلانه يلزمنى أن أستجمع كامل قوتى لإلقاء خطابى وأما أدبيا فلإن اللطف الذى غمرنى به الناس على اختلاف طبقتهم فى الأسبوع الماضى قد غلبنى وحملنى جميلا كبيرا. إنى اشعر بألم الحزن الشديد فى نفسى على فراق البلاد التى لى فيها أصدقاء كثيرون وبها تقترن كل الحوادث التى حدثت فى خدمتى العمومية وكذلك الأفراح التى أصابتنى فى حياتى المنزلية ومعيشتى العائلية مدة جيل تقريبا.
إنى لا أفارق هذا القطر أيها السادة لأسباب سياسية, وإنما أفارقه لان يد الدهر تضغط على بعد ما قضيت فى الخدمة العمومية زمنا طويلا كنت فى أكثره أكد كدا و أعدو عدوا، يحق لى أن أنال نصيبى من الراحة. ولأنى اشعر أيضا إن المهام والمصالح العظيمة التى تطلب من وكيل الدولة البريطانية السهر عليها فى هذا القطر أن يكون السهر عليها الآن أوفى و أتم اذا عين لها من هو اصغر سنا و فى إبان قوته و نشاطه عقلا وجسدا. أرى قبل التكلم فى أمور أخرى أن أقول كلاما قليلا عن الإشارات اللطيفة والعبارات الرقيقة التى فاء بها جناب الكونت دوسريون وعطوفة رئيس النظار عن السيدة التى هى معيلتى فى حياتى. فقد وقعت أقوالهما وقعا شديدا فى نفسى ولا اشك أنها وقعت كذلك فى نفسها أيضا. وهذا موضوع لو أطلقت لنفسى العنان فيه لعدوت فى ميدان الفصاحة شوطا بعيدا. لكنى أملك عواطفى لأسباب ظاهرة واكتفى بقولى الى ما كنت أصغى الى الخطبتين اللتين سمعناهما وكنت أتمنى ان أكون مكان الخطيبين لكى أطرى الليدى كرومر عوضا عنهما. ربما جاز لى فى هذا المقام أن أقول انه كان من أقرب الأمور الى قلب الليدى الاشتراك مع غيرها من السيدات المحسنات فى تقليل الوفيات من الأطفال. تخفيف فتك الآفات بهم فتكا ذريعا فعسى أن هذا العمل الذى ابتدأ بداية حسنة أن لا يهمل فى المستقبل.
ولا أريد أن أطيل الشرح أيها السادة فى تاريخ ما مضى دون أن أشير الى جميع الذين أسعدنى حظى بأن أكون شريكا لهم فى إنشاء مصر الجديدة, وإنما أود أن أقول إنى كنت دائما أنال أكثر من نصيبى من مديح الناس على كل أمر حسن تم فى هذه البلاد حديثا, وأنه لولا مؤازرة غيرى من المصريين والأوربيين أبناء أمتى وأبناء الأمم الأخرى لما استطعت أن أعمل شيئا مما تم عمله, وأقول إنه لم يعمل عملا أنفع مما عمله المستر فندلى الذى كان ينوب عنى أثناء غيابى. لا ريب عندى أنه فى الأربع والعشرين سنة التى قضيتها فى وظيفتى هنا أنى ارتكبت أخطاء كثيرة, ويحتمل نتيجتها أن يكون قد عادانى البعض, ولكنى آمل أن يكون وجودكم هنا اليوم دليلا على أنى كونت لى أصدقاء كثيرين أيضا, وقد أثر فى حضور كثيرين من رفقائى الأجانب الذين كانت العلاقات الشخصية بينى وبينهم على غاية الوداد كما كانت بينى وبين الذين سبقوهم أيضا.
أخص هنا اثنين من أكابرهم, أولهما المغفور له سمو الخديو توفيق باشا الذى كان يعرف بلاده وأهل بلاده حق المعرفة, وكان شبه حلقة اتصال بين المصلحين والشعب المصري, وأنه كان يلطف من شدة غيرة الأولين أحيانا ويبذل نفوذه مع الآخرين لنفى خوفهم من الإصلاح الذى كان حينئذ يفوق خوف المحافظين المتطرفين, فالتاريخ يكون ظالما إن لم يجعل لتوفيق باشا مقاما ذا شأن بين الغابرين من الملوك والأمراء الشرقيين. إنه مثل مشكاة نور مضيئة فى قاعتهم. وهناك شخص آخر من عظماء الزمن الماضى يخطر الآن على بالى وتتردد صورته فى هذا المقام أمام ذهنى.. فالذين يعرفون منكم أيها السادة تاريخ العهد الماضى فى مصر وقرأوا تقريرى السنوى الحديث يعلمون ما اقترحته لتعديل نظام الامتيازات الأجنبية إنما هو بمثابة تتمة للعمل العظيم الذى يحكى أعمال أرباب السياسة والذى خط المرحوم نوبار باشا خطته الأصلية. وأذكر أيضا رجلا آخر من أرباب السياسة وأنا مسرور بمشاهدته الآن بينكم, ألا إنه صديقى القديم المؤتمن دولة رياض باشا. إننا أيها السادة فى زمان لا يحتاج فيه الشاب المصرى الذى يتظاهر بمظهر المصلحين الى شجاعة تذكر. ولكن ما هو كائن الآن لم يكن كذلك طول الزمان بل كان لإسماعيل باشا رحمه الله طرقا عنيفة فى معاملة الذين لا يطأطئون الرؤوس أمامه ولا يعنون لهيبته, ومع ذلك وقف رياض باشا منذ 30 سنة واعترض بكل جرأة على سوء الإدارة وأقام الحجة على فساد الأحكام الذى كان متغلبا على مصر فى تلك الأيام, وعلق الجرس بعنق الهر, فأعجبت بشجاعته هذه حينئذ. وكثيرا ما وقع بينى وبين صديقى القديم خلاف بعد ذلك ولكنى لم أكف قط عن النظر إليه بعين الاعتبار, بل بعين المحبة التى تستحقها صفات العبقرية.
وماذا أقول عن صديقى العزيز على السامى المقام فى عينى, مصطفى باشا فهمى, فقد قضينا السنين الطوال وكلانا على أعظم صداقة شخصية. فأولا أقول إنه من أعظم الذين التقيت بهم فى حياتى لطفا وأكرمهم أخلاقا وأحسنهم مناقب, وأنه امتاز بتمام الإخلاص والاستقامة والحرية والصدق فى كل عمل من أعمال حياته. وثانيا أقول إنه خدم أهل بلاده أجل الخدمة ولكن بالطريقة المعهودة من السكينة والحذر والابتعاد عن التعرض لغيره والدخول فى ما لا يعنيه, وأنا أعلم أن هذه الأقوال القليلة لا توفى صفاته الجليلة بعض حقها ولكنه لدى قول كثير والوقت يحتم على أن أختصر فيما أقول.
ومما أوجب على السرور العظيم أنى عاشرت ناظر الخارجية المصرية سعادة بطرس باشا غالى معاشرة طويلة وكان يؤدى عظيم منفعة وأجل خدمة بما أوتى من ثاقب الرأى وسعة الحيلة العقلية فى حل المشكلات التى تنجم عن حالة البلاد السياسية الخصوصية. وأذكر أخيرا أيها السادة اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب, لكن معاشرتى القصيرة له قد علمتنى أن أحترمه احتراما عظيما, وإن أصاب ظنى أو لم يخطئ كثيرا فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعادة سعد زغلول باشا مستقبل عظيم للمنفعة العمومية, لأنه حائز لجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده فهو صادق مستقيم وكفء مقتدر شجاع فيما هو مقتنع به, وقد احتمل الطعن والذم من كثيرين دونه فعلا بمراحل من أبناء وطنه, فهذه صفات سامية، فالواجب أن صاحبها يتقدم كثيرا.أما شركائى فى العمل من الأوروبيين فغاية ما أقوله إنى أشكرهم من صميم فؤادى على مساعيهم التى لا تقدر بثمن وعلى شدهم أزرى فى أحوال محفوفة بمصاعب عظيمة ولا يسع المقام ذكرهم كلهم بأسمائهم خصوصا السير كولن منكريف والسير ويليام جارستين وأعوانهما الذين أعطوا المصريين أعظم ما يحتاجون إليه وهو ماء الري, وأضيف الى اسميهما اسم رجل فرنسى شهير جليل وهو المسيو ماسبيرو الذى أكسبته أبحاثه العلمية فى تاريخ مصر القديم ما يستحقه من الصيت العالمى.
أخيرا أيها السادة أقول إنه لم يكن يهمنى ويلذ لى من كل واجباتى أكثر من واجباتى بخصوص السودان وسأعد اشتراكى مع السير ريجنلد ونجيت وأعوانه الغيورين الأكفاء فى الإصلاح العظيم لخدمة تلك البلاد وخيرها. فبمساعدة الذين ذكرتهم ومساعدة كثيرين غيرهم أظن أننا حققنا عملا غير ردىء فى ربع قرن من الزمان وإن لم يكن فيه من القصور والتقصير. ولكن يقول لى أقوام كثيرون إن المصريين بوجه الإجمال لا يعترفون كثيرا بالجميل وبالمنافع والفوائد التى لا شك فى أنها منحت لهم, فأجيب عن ذلك أنى لا أعرف ما يشعر به المصريون من هذا القبيل, ولكن فيلسوفا فرنسيا قال قولا أورد معناه ولست أجزم باقتباس محتواه قال إذا قاسى شعب آلام الظلم, ولا ريب أن أهل مصر قاسوا كثيرا فى ماضى زمانهم, ومهما كان شعور المصريين وكانت حاستهم فليبرهن لى المبرهنون وليقيموا الحجة والدليل فلست بتاركهم يحجونى ليخرجونى من الوهم الشريف الذى أنا فيه إن صح أنه وهم لا حقيقة, وأعنى بذلك أنه لا يمكن أن أصدق أن المصريين أو أحد منهم على كل حال- ينكرون أن يد الحضارة الغربية التى كانت تستعملها إنجلترا لإنجاز عملها فى الخمس والعشرين سنة الماضية هى التى انتشلتهم من بالوعة البؤس التى كانوا وغيرهم فيها. وهب أنى اقتنعت – وما أنا بمقتنع مطلقا أن أبناء الجيل الحاضر لا يؤمنون بتلك الحقيقة الجلية, فإنى لا أزال آمل مع ذلك أن نسلهم يعترف بها, إذا أن المعتاد أن أولاد العمى يولدون مبصرين.
أيها السادة: عندما قدمت الى هذه الديار لأتولى مهام وظيفتى الحالية, وضعت نصب عينى هدفين ألزمت نفسى بهما عبر مدة عملى كلها: الهدف الأول سياسى والآخر إدارى.
الهدف السياسى الذى وضعته هو أن أكون من جملة المساعدين على توقيع الاتفاق الودى بين فرنسا وإنجلترا. هذا الاتفاق الذى أشار إليه الكونت دوسريون بعباراته اللطيفة مبنى على اشتراك الفريقين فى المصلحة وعلى قرب الجوار وتشابه النظامات السياسية واحترام كل فريق للآخر, احتراما ناتجا عن تلاقيهما كثيرا فى ساحات الوعى واقتتالهما الشديد فيها, وعلى كون خصائص كل منهما مكملة لخصائص الآخر وصفاته, وإضافة الى ذلك كله أنه لا يوجد فى هذا الاتفاق تهديد لأحد, وإنما هو صادر عن رغبة الفريقين فى حفظ السلام فى العالم. وأقول هنا إنه إن وجدت فى العالم حالة بين دولتين تقضى عليهماالأحوال والظروف بأن يتحابا ويتصادقا, فإنها حالة الأمتين الإنجليزية والفرنسية. وعندما أتيت الى مصر عام 1883, عقدت العزم على سد الثغرة الموجودة بين البلدين بقدر ما تمكنى دائرة وظيفتى, وكان ذلك أمرا ثقيلا وشاقا, لأن كلا من الأمتين كانت تنظر للأخرى شذرا وقد دار بينهما الصراع والمعارك القاسية, لكن الأمور لم تتعدى حد الكلام, الذى نلت أنا منه نصيبى من الذم من خلال الصحافة وكان أشدها وصفى بـ «كرومر الوحش», وتم تشبيهى مرة بأعظم آلهة الوثنيين حبا لشرب الدماء. ولكنى نظرت الى ذلك النقد على أنه مداعبات صحافة مثله مثل التوابل فى الطعام, تكسبها حياة وتزيدها نكهة ورونقا, وأنه يتعين على الإنسان ألا يحفل بها كثيرا لا سيما أن زمانها قد مضى وإنقضى وتغيرت لهجة الصحافة الفرنسية لدرجة أنها لقبتنى فى هذه الأيام بالشيخ الجليل, نتيجة أنى بذلت الجهد عبر أعوام كثيرة فى المساعدة على عقد هذا الاتفاق بين الأمتين. أقول الآن أن أسعد يوم فى خدمتى مصركان يوم 6 أبريل سنة 1904 الذى تم فيه توقيع الاتفاق الودى بين فرنسا وإنجلترا. ولا أدعى هنا أنى كنت من أشهر واضعى ذلك الاتفاق بل أعترف بأن الفضل فى توقيعه كان لأرباب السياسة حيث كانوا مسئولين عن تلك الأمور فى وزارتى الخارجية فى لندن وباريس, وربما جاز لى من غير أن أمس واجب الإكرام والاحترام أن أضيف إليهما مليكنا السامى النهى العظيم المواهب العقلية الذى نلت الفخر والامتياز بخدمته السنية. لكن يسوغ لى أن أقول أن الجهد المتواصل الذى بذله أولو الشأن فى مصر لأعوام طويلة لتجنب كل ما يمكن تجنبه من الأزمات والمنازعات ولفض كل الدعاوى والشكاوى الصغيرة التى نتجت عن احتلال بريطانيا العظمى لمصر. هذا كله مهد طريق الاتفاق وسهل الأمر على المتفاوضين فيه.
وأتكلم الآن عن الغرض الإدارى الذى وضعته نصب عينى فأقول إنى سمعت فى هذه الأيام لغطا ولغوا كثيرا عن حكومة مصر وأنها حكومة مستبدة ظالمة. ولا يهمنى هنا أن أطيل فى الرد والاستفاضة على ذلك الكلام, بل أقول إنى كرست جهدى طوال خدمتى كلها فى مصر فى بث روح الحرية فى نظارة الحكومة والتى اقتضت الضرورة أن تكون حكومة بيروقراطية. كما أنى لم أدخر وسعا فى الاطلاع على حقيقة الرأى العام سواء كان أوروبيا أومحليا وإعطائه نصيبه من الاعتبار والاهتمام وحسبى أن أترك لغيرى الحكم ونجاحى فى ذلك الأمر. ثم وليت العناية أمرا آخر وهو أنى أسمع قوما يقولون إن مصر ارتقت ارتقاء ماديا عجيبا فى الأعوام الأخيرة, ولكن لم يحقق أهلها شيئا من الرقى ادبيا وعقليا. عجبا أيها السادة كيف يقال إن مصر لم ترتق أدبيا!. هل الحكم فيها اليوم للكرباج وحده كما كان فى الأيام الغابرة؟. هل السخرة باقية فيها ولم تطو صفحتها الأيام؟. هل لعنة الرق لا تزال باقية؟ أليس كل شخص فيها من الأميرالى الصعلوك الحقير سواء أمام القانون؟. ألم ينشط الناس فيها الى السعى والكسب؟. أليس أقل الناس فيها شأنا يجنون ثمار سعيهم ويتمتعون بإنجازاتهم وثمار عملهم وبما يحصلون عليه من رزق؟. أليس حقيقة أن الناس أصبحوا أحرارا وأن العدالة لا تباع ولا تشتري, وأن البعض يحسون أنهم أحرار أكثر مما يجب أن يكون فى المجاهرة بآرائهم والتعبير عما يدور فى ضمائرهم, وأن سلطان البقشيش قد ولت أيامه وفقد سلطانه فى الحكومة ولم يبق له أثر. أليس ماء النيل الذى يحيى الأراضى ويخصب التربة يتم توزيعه بالقسط والعدل على الأمير والفلاح الفقير؟. ألا يعالج المرضى الآن فى مستشفيات حديثة حاوية الأجهزة ووسائل الراحة؟. ألا يعامل المجرمون والمجانين برفق ويستمتعون بعناية المصلحين بعد أن كانوا يعاملون معاملة الوحوش؟. ألم يصبح اشتراك الحكام والمحكومين فى المصالح أمرا مقررا قولا وفعلا عند الفريقين؟. نعم قد تحدث أخطاء إدارية, ولكن حدوثها ليس عن قصد وترتيب ولكن بحسن نية رغبة من الحكومة فى تحقيق الخير للأهالى. لقد قل تحصيل الضرائب كثيرا عما كان عليه وأنها تنفق الآن فى الوجوه النافعة للناس بعد أن كانت تصرف فى أمور بذخ لا طائل من ورائها ولا منفعة للسكان.
ينكر البعض ويقولون إن عقول المصريين وآدابها لم ترتق انظروا الى تعليم البنات وهل يظن عاقل أنه يمكن لهذه البلاد أن تتشرب روح التمدن الحقيقى ومقام المرأة مضطهد؟. إن كان أحد يظن ذلك فإنى أخالفه فى ظنه كل المخالفة. فخلال بضع سنين لم يحظ ذلك الأمر باهتمام أحد بتلك المسألة غير صديقى سعادة يعقوب باشا أرتين وعزتلو قاسم بك أمين وفئة قليلة أخري, أما بقية الأهالى لم يكونوا يبالون بذلك الأمر بل كانوا ضده, فانظروا الى ما حدث من تغيير الآن فإنه لم يبق عند الحكومة المصرية مدارس تسع كل البنات اللائى يتمتعن بالتعليم الآن. انظروا أيضا الى التعليم الابتدائى فإن النظام الذى كان متبعا قبل الاحتلال البريطانى لم يكن يصلح لشيء وتم تغيره تغييرا جذريا, وذلك لأن الكتاتيب تنشأ فى كل جهة من أنحاء القطر بمساندة كثيرين من أعيان البلاد المستنيرين. أما تعليم العلوم العالية وأعنى بها الحقوق والطب والهندسة وغيرها, فالتقدم فيها مطرد منذ أعوام. ولو أنه تيسر للحكومة المال الوافر منذ 30 سنة لكان قد تم أكثر مما تم الآن. المشكلة أنه لم تتوافر للحكومة الأموال اللازمة لذلك.. على أنى لا أنكر أن البلاد لا تزال مفتقرة كثيرا الى التقدم الأدبى والعقلى, وأنا واثق أن المعارف ستتقدم وترتقى سريعا على يد ناظر المعارف الحالى ومستشاريه. وأرحب بما قاله سمو الخديو أن الهم الدولى بأمر الدين المصرى قد مضى وانتهي, وأن الوقت قد حان أن نبذل الجهود لخير المواطنين ماديا وعقليا وأدبيا. من جانبى ومن صميم قلبى أرحب كثيرا بأقوال سموه تلك فهو قادر على إبطال فضائح ديوان الأوقاف وتطهيره من الأدران المفسدة للآداب ولأخلاق هذه البلاد, كما أنه قادر على أن يظهر لأهل دينه أنه يمكن إصلاح المحاكم الشرعية من غير مس لأصول الديانة الإسلامية, وأنه أيضا قادر أيضا على إحباط أعمال أصحاب المصالح والأجندات الذين لا يتحملون مسئولية ويحومون حول كل معية شرقية ويكون نفوذهم كله شرا ووبالا على الآداب العمومية. وقادر على استعمال نفوذه وهيبته لشد أزر المصلحين الحقيقيين الذين يريدون الخير للبلاد قلبا وقالبا, وتنشيطهم فى سعيهم وبث هممهم. فإن كان سموه يقبل هذه الأشياء كما هو مأمولى فله عظيم الشكر والاحترام من كل طبقات الأمة. أخشى أنى أثقلت عليكم أيها السادة بطول خطابى ولكن كل ما قلته كان فى الماضي, فإذا تكرمتم على بالإصغاء فإنى سأتحدث عن المستقبل. ما هى حقائق الحالة المصرية الآن؟. أولاها أن الاحتلال البريطانى قائم ودائم وقد أبلغتنا حكومة جلالة الملك ذلك رسميا. وثانيتهما هى أنه ما دام الاحتلال باقيا, فستبقى الحكومة البريطانية مسئولة بالضرورة عن الخطة التى تجرى عليها الإدارة المصرية تفصيلا وإجمالا. وهذه حقيقة لا ريب فيها, ولا يجب أن يشك فيها أحد. يترتب على تلك الحقيقتين أن نظام الحكومة الحالى دائم رغم ما يعتريه من العيوب الكثيرة التى لا يعترف بها أحد أكثر مني, وأظن أنه لا يوجد من هو أقدر على ضمان دوام النظام أكثر من السير ألدن جورست خليفتى المقتدر البارع الذى يعرف جميعكم قدراته ومزاياه, وبالتالى فلا حاجة بى الى إطالة الكلام فى شرح أوصافه الجليلة, غير أنى أقول إنى سررت أعظم سرور أنه سيخلفنى لأن الصداقة بينى وبينه عظيمة ولأنى ثقتى به تامة. ثم أنى أقول للجرائد الأوروبية والمحلية إنها تشير على السير ألدن جوست وتسميه تابع سياستى. أريد أن أوضح ماذا كانت سياستى هذه, وأنه يكفى لإيضاحها كلمات قليلة وهى أن سياستى كانت قول الحق وأن السير ألدن سيقول الحق أيضا وسيقوم بواجباته الشاقة بمساعدة أبناء بلاده وغيرهم من المخلصين. ولا تنسوا أيها السادة أن مبدأ الاتحاد قوة يجب أن يتبع فى هذا القطر أذا أردنا المنفعة العامة. ليس من المحتمل أيها السادة أن يكون لى أى تدخل فى السياسة مستقبلا, ولكنى لن أكف عن الاهتمام بأمور مصر قدر إمكاني, وأحاول بذل قصارى جهدى لترقية هذه البلاد طبقا للخطة الموضوعة الآن. يريد خصومى الإنجليز أن نعدوا عدوا سريعا جدا وأنا أريده سيرا منتظما فهو يوافق مصلحة البلاد, ولأنه لو كان عدوا فإن جواد مصر سيكبو ويقع وستكسر ركبتيه.
وأخبركم الآن أيها السادة لماذا أرى هذه الآراء وأذكرها الآن. لا أراها هكذا ليس لأنها ستعود على وطنى بالفوائد والمزايا, ولكن لأن الأذكياء من الأوروبيين والمصريين يدركون أن ماأقوله عندما يصل الى مسامع الملايين الذين لا يسمع لهم أحد صوتا من الفلاحين ذوى الجلاليب الزرقاء والذين يتوقف تقدم البلاد على مجهوداتهم, سيعلمون أنى أعد نفسى دائما صديقهم الحقيقى. إنى أحذرهم أن يغتروا ويضلوا بأقوال الذين يدعون كذبا بأنهم يمثلونهم نيابيا وأنهم ينطقون بلسانهم وينقلون عنهم بلا إذن ولا توكيل آراء لى لا يفهمونها ولا يدركونها ويطلبون أمورا سياسية لو استجيب فى الحال لعادت بالضرر على مصالح الناس عموما وعلى مصالح الفقراء خاصة.
ولو أنى توقفت عن الدفاع عن هذا النظام الذى دام ربع قرن الآن وانتقاده لكان أول ماأنقده فيه أن التقدم كان سريعا جدا, عوضا عن أن يقال إنه كان بطيئا جدا, ونتيجة سرعته تلك فإنه لا يتاح ويتيسر لعامة الناس رؤية الإصلاحات التى تمت.
بقى لى نصيحة أخرى يتعين على قولها قبل أن أجلس فى مكانى وهى أن قول «الاتحاد قوة», لا يصدق على العاملين فى خدمة الحكومة فقط, بل على جميع الذين يهمهم إدخال التمدن الحقيقى الى هذه البلاد. فالواجب يحتم عليهم أن يتحدوامعا ولا أعنى بذلك الإنجليز والفرنسيين والألمان وسائر الأوروبيين فقط. يجب أن يتخلوا عن المناظرة والمنافسة ويتحدوا معا فى مصلحة واحدة. بل إن جميع الذين يريدون أن تكون الحكومة حكومة عقل, وأن يكون تقدم البلاد مستمرا دائما, أن يتحدوا جميعا سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو أوروبيين أو إفريقيين أو آسيويين وأن يقاوموا القوات المجاهدة فى سبيل التخلف والتأخر, حقيقة سواء كان جهادهم عن جهل أو عن عمد وقصد.
أشكركم أيها السادة فى الختام على حسن إصغائكم إلى بالصبر وطول الأناة عن طول المدة التى قلت فيها كل ما أردت قوله. وآخر كلمة أقولها هى كلمة كان يقولها عباد الإلهة إيزيس فى هذه البلاد وكانوا ينقشونها كثيرا على قبورهم بلغة القوم الذين هم أصل التمدن الأوروبى والذين استوطن أناس كثيرون من ذريتهم هذه البلاد لخيرها والذين أعد من منهم أصدقاء كثيرين لي, وأعنى بها لغة اليونان, ومعنى تلك الكلمة اليونانية: كونوا بشوشين.
أودعكم أيها السادة وأنا واثق ثقة تامة بمستقبل هذه البلاد التى كانت موطنا لى سنين عديدة.
رابط دائم: