رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الأهرام وكرومر ( 2 ـ 2 )

تم الاحتلال الإنجليزى لمصر فى سبتمبر 1882, وبعدها مباشرة وبتاريخ 19 سبتمبر 1882, صدر مرسوم بإلغاء الجيش المصرى ووضع قيادته تحت فالنتين بيكر الإنجليزى, الذى عرض على الخديو اقتراحا بإبعاد الضباط المصريين الذين اشتركوا فى الثورة العرابية وتجنيد مسلمى البوسنة وألبانيا وبلغاريا على أن يكون الضباط من الإنجليز, وذلك تجنبا لتكرار ما حدث فى مصر قبل الاحتلال. عندما تولى الحكم كرومر عام 1883, كانت خطته الإضافية أن مصر لا تحتاج تعليما وتكنولوجيا وصناعة. وبالتالى كانت إستراتيجيته تهدف الى قفل المدارس فى كل المراحل. ركز خطته على قفل المدارس المتخصصة والعليا التى شهدت فترات ازدهار منذ عهد محمد على والذى أرسل البعثات لفتحها وازدهارها وخصوصا فى المجالات العسكرية والهندسية والصناعية والطبية. يقول أنور عبدالملك فى كتابه نهضة مصر: وقد عرفت المدارس المتخصصة والعليا فترة ازدهار عظيمة. نذكر منها مدرسة المحاسبة والمساحة ومدرسة الآثار المصرية القديمة وقسم الرسم بالمدارس المدنية ومدرسة الزراعة ومدرسة المكفوفين والصم للبنات والبنين ومدرسة الفنون ومدرسة البرق. إضافة الى أربع مدارس عليا هى: مدرسة الهندسخانة ومدرسة الطب ومدرسة الإدارة والألسن ومدرسة دار العلوم.

كانت ضرورة إضعاف هذه المدارس وقفلها هدفا إستراتيجيا لكرومر الذى بدأ منذ اليوم الأول لتوليه شئون مصر على بث الفوضى والفرقة بين المصريين, إضافة الى تحطيم الصناعة والتعليم تحطيما يشبه الإبادة رغم كل ما أنفقته فيها مصر من لحمها الحى, ورغم كونها كلها إنجازات مصرية تم تحقيقها خلال قرابة ثمانين عاما منذ تولى محمد على حكم البلاد وإحداثه نهضة غير مسبوقة الى نهاية عهد إسماعيل. تعدت إستراتيجية كرومر إثارة الشبهات حول الإسلام وتشخيصه بأنه دين مناف للحضارة وأنه لم يكن صالحا إلا فى البيئة والزمان الذين وجد فيهما.

إضافة الى ذلك عندما بدأ كرومر عهده أعلنها صراحة منذ اليوم الأول لتوليه مسئولية البلاد أنه لا توجد سوى طريقة واحدة تصلح بواسطتها الإدارة المصرية, ألا وهى وضع الحكومة المصرية بدرجة كبيرة وصغيرة تحت الإرشاد البريطانى, وفى نفس الوقت تخصيص الوظائف الحقيرة للمصريين وحثهم على التهافت عليها وأنها الحلم بالنسبة لهم, مما ساعد على بلورة الجهاز الإدارى العقيم الذى ما زالت مصر تعانى منه. بناء عليه زادت أعداد الموظفين الإنجليز زيادة مطردة شملت كل الوظائف العليا والمفتشين فى المديريات المختلفة وبخاصة فى وزارتى الأشغال والداخلية. أصبح بعدها أولئك الموظفون الكبار هم حكام المديريات وأفقدوا المديرين المصريين سلطاتهم. كانت مصر تدفع من ميزانيتها رواتب كل أولئك إضافة الى رواتب الأجانب فى الجيش. كانت الصحافة حينها تمثل أهم مظاهر التعبير عما يختلج بنفوس الناس لأنه لم تكن هناك إذاعة أو تليفزيون أو وسائل تواصل اجتماعى مثل التى نعيشها الآن. كانت الصحافة حينها مرآة للشعوب وموجهاوناصحا ومرشدا.

لم يقتصر وقوف الأهرام فى وجه الاحتلال الإنجليزى على مناهضتها للمحاولات التخريبية للجيش وتعمد إضعافه وإسناد قيادته الى ضابط إنجليزى, بل تعدته الى اتخاذ موقف عدائى آخر فيما يخص سيطرة الاحتلال على مجلس الشورى والتدخل فى قراراته لتصدر داعمة للاحتلال وموطدة لأقدامه.

بعد 24 عاما من حكمه, سقط كرومر سقوطا مروعا وتم اقتلاعه من مصر وتقديمه استقالته فى 1907, نتيجة لحملات مصطفى كامل وبقية القوى الوطنية المصرية ونتيجة مقاومة الصحافة الوطنية ومنها الأهرام, وكذلك نتيجة للضغط العالمى العنيف من المشاهير البريطانيين الأحرار الذين ساءهم ما يفعله كرومر من أعمال عنصرية شائنة باسم بلادهم, ومن تشويه وطغيان وفظائع ورعب وأكاذيب, آخرها مذبحة دنشواى. وكلها أمور ما سبقه بها أحد من المحتلين. أشهر هؤلاء كان الكاتب العالمى برناردشو الذى نشر مقالا مطولا من 28 صفحة بعنوان الرعب فى دنشواى, فضح فيه أكاذيب كرومر وادعاءاته الباطلة بخصوص المحكمة ذاتها والأحكام الجائرة التى استصدرتها المحكمة ضد مواطنى دنشواى. ملخص ما كتبه برنارد شو هو تفنيد وإبراز إدعاءات كرومر الكاذبة: تبرير كرومر لهذه المحكمة على أنها وإن كانت هى نفسها غير صالحة إلا أنها أصلح من الوكلاء. كما أن المصريين اعتادوا على ألا ينقادوا للقانون وألا يمتثلوا للنظام إلا بالجلد والتعذيب والأحكام العرفية والإعدام حتى إنهم لن يحترموا محكمة لا تواصل هذه الإجراءات التى اعتادوا عليها. وختم برنارد شو مقاله الطويل الذى كان من نتائجه اقتلاع كرومر من مصر,بقوله: ما كادت تنتهى طباعة هذه الوريقات حتى وردت أنباء باستعفاء اللورد كرومر. ولما كان يتهم نفسه باعتلال صحته, فلعله يسامحنى إذا اتهمته باعتلال حكمه.

لم يتقبل الرجل ما حدث له ولكنه ظل يهزى بخرافات منها قولته المشهورة الباغية: المصريون ليسوا أمة ذات كيان ووجود قائم بنفسه حتى تعاملهم إنجلترا معاملة أمة.

هذه الكلمات الجارحة الجاهلة للورد كرومر فى حديث له للصحف المصرية الموالية له وللاحتلال البريطانى لمصر عقب سقوطه.علقت الأهرام على مقولة كرومر الجائرة تلك فى عددها الصادر بتاريخ 25 أبريل 1908, عقب رحيله, موضحة مكانة مصر فى العالم كله منذ القدم, وأن المصريين أمة لها حقوق الأمم الحرة الجديرة بأن يكون لها فى الحياة نصيب.

قوبل نبأ تلك الاستقالة من الأمة بالابتهاج. غير أن الحكومة المصرية التابعة نهجت منهجا معارضا لذلك, وأقامت حفل تكريم كبيرا له, وتكونت لجنة حكومية برئاسة رئيس الوزراء حينها مصطفى فهمى لتنظيم ذلك الاحتفال وسعد زغلول باشا وحسين فخرى وغيرهم من الأعيان الموالين للاحتلال. وقد أقيمت الحفلة بدار الأوبرا المصرية فى4 مايو 1907.


لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة

رابط دائم: