رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تلك الأيام
أسطورة على مصطفى مشرفة

عندما توفى على مشرفة قال أينشتاين: لا تقولوا إن مشرفة مات لا.. لا إننا محتاجون إليه، إنها خسارة كبيرة، لقد كان رائعا وكنت أتابع أبحاثه بكل ثقة لأنه من أعظم علماء الطبيعة فى العالم.

كان أينشتاين صديقا لمشرفة يتبادلان الرسائل والأبحاث، وجاء أينشتاين إلى مصر واستضافه مشرفة فى منزله بمصر الجديدة.

وعلى مشرفة «1898 - 1950» أول مصرى فى العصر الحديث يطلق عليه لفظ العالم عن جدارة واستحقاق لأبحاثه فى الطاقة الذرية والنسبية وموسوعيته العلمية التى جعلته ندا وصديقا لأينشتاين.

ولد مشرفة فى مدينة دمياط لأسرة ميسورة الحال، كان أبوه السيد مصطفى عطية جعفر مشرفة يملك 200 فدان ويضع عمامة فوق رأسه تشبه عمامة جمال الدين الأفغاني، وكان يحضر ندوات الافغانى ودروس الإمام محمد عبده.

زرع الأب بذرة حب العلم فى ابنه الكبير علي.

بعد ان عصفت بأمواله أزمة مالية مدركا بثاقب نظره أن العلم لا المال هو من يرفع البيوت ويحفظ أركانها.

فقد حدثت أزمة القطن عام 1907 فأطاحت بأرضه ولم يبق إلا 84 فدانا أخذها الدائنون أيضا فتراكمت على الأب الأحزان ومات عام 1910.

مات الأب فى اللحظة التى كان يستعد فيها على مشرفة لنيل الشهادة الابتدائية، وجاء ترتيبه الأول على القطر المصري.

فجأة مات الأب وضاع المال ولم يبق للطفل الصغير - وقد أصبح رجلا لأسرة مكونة من «نفيسة ومصطفى وعطية وحسن» - إلا العلم الذى سوف يصبح الأسطورة التى تحكم مجرى حياته فيكون الأول دائما ويصبح من أنبغ علماء العالم.

انتقلت الأسرة إلى القاهرة والتحق مشرفة بالمدرسة السعيدية وبدأت علامات الأسطورة تظهر فيتعلم بالمجان لتفوقه ويناديه أساتذته بـ»السيد».

ويحصل على البكالوريا ويكون أول الناجحين ثم ينال اجازة المعلمين العليا عام 1917 ويسافر فى بعثة إلى انجلترا فيحصل على دكتوراه الفلسفة فى العلوم 1923 ثم دكتوراه فى العلوم 1924 ليكون أول مصرى يحصل على هذه الدرجة العلمية وأصغر من حصل على الدكتوراه فى العالم.

وينفتح الطريق أمام أسطورته وأبحاثه التى لفتت إليه الأنظار فيكتب دونالد مالكوم ريد: جاء عام 1921 الذى فاز فيه أينشتاين بجائزة نوبل، ومشرفة يتقدم حثيثا فى مجال الفيزياء الكمية باحثا بصورة حسابية النتائج التى توصل إليها كل من زيمان وستارك، وساعد كل من نيكلسون وأدين وريتشاردسون فى نشر أبحاثه فى المجلة الفلسفية ومجلتى الجمعية الملكية بلندن وزيمان وستارك وريتشاردسون جميعهم حاصلون على جائزة نوبل.

ورغم ان أبحاث مشرفة كانت إضافات دقيقة فى العلوم الرياضية، ورغم مكانته العلمية التى بدأت تسطع فى دنيا العلماء، رفضت الجامعة ترقيته إلى درجة الأستاذية، ووقف سعد زغلول بجانبه عندما وصلت الأزمة إلى البرلمان قائلا: إن تقديرنا لمشرفة يجب ألا يقل عن تقدير جامعة لندن له.

كانت جامعة لندن أرسلت للدكتور بنجام عميد كلية العلوم بخصوص ترقية مشرفة» بأن الدكتور مشرفة هو المصرى الوحيد الذى يمكن أن تسند إليه أستاذية الرياضة التطبيقية بدلا من الأستاذ الانجليزي، ليصبح أول أستاذ مصرى بالجامعة وعمره 28 عاما فقط عام 1926.

كانت نظريته فى الإشعاع والسرعة سببا فى شهرته العالمية فقد قال إنه يمكن اعتبار المادة والاشعاع صورتين لشئ واحد يتحول أحدهما للآخر.

ويشرح البروفيسور السير أوليفر لودج عالم الطبيعيات نظرية مشرفة قائلا: الأستاذ مشرفة يقول إن كل الظواهر التى تبلغ سرعتها سرعة الضوء نسميها إشعاعا، بينما الظواهر عديمة السرعة نسميها «مادة» ومعنى ذلك أن الفرق بين المادة والإشعاع هو فرق فى السرعة لا أكثر ولا أقل، وهو فرق نسبي، فالمادة بسرعة الضوء إشعاع والإشعاع فى السرعة الأقل من الضوء.. مادة!

وهذه النظرية العظيمة مهدت الطريق أمام العالم ليحول المواد الذرية إلى إشعاعات.

بسبب مكانته العلمية تزوج مشرفة دولت زايد ابنة حسن زايد باشا عام 1932 وانجب منها «مصطفى ونادية وسلوي».

عندما اصطحب مشرفة زوجته فى شهر العسل رأت منه العجب، فقد تصادف وجود مؤتمر للرياضيات فى زيورخ بسويسرا، واندهشت عندما قال لها إنه يحب عمله أكثر من أى شيء فى الوجود، ورأته ينكب على عمله إلى الفجر ثم يقوم إلى البيانو يعزف ليريح نفسه من إرهاق العمل، وفى وسط مشاغله لا ينسى أن يصطحبها إلى السينما.

كان مشرفة عالما منفتحا على الفنون والآداب، سأله الشاعر كامل الشناوي: هل تهوى الموسيقي؟

قال: أهواها وأدرسها.

سأله: هل عندنا ألحان عالمية؟

قال: عندنا صوت عالمي.. صوت أم كلثوم.

سأله: ولكنك عالم متخصص فى أشياء لا تمت للموسيقى بصلة.

قال: فى أعماق كل عالم فنان.. هذا إذا صح أنى عالم.

وفى حديثه لمجلة الجديد لصاحبها سلامة موسى يقول مشرفة: الباحث العلمى كالشاعر أو كالمؤلف الموسيقى كثيرا ما يُلهم نتائجه وأبحاثه، البعض يفسرها بهداية العقل الباطن، لكننى أفضل أن أسميه الإلهام.

كان يحضر الندوات الأدبية ويناظر طه حسين وأحمد أمين فى أيهما أفيد للمجتمع العلوم أم الآداب؟

ويكتب إلى توفيق الحكيم: لطالما تاقت نفسى إلى رؤية أدب عربى أجد فيه الغذاء الروحى واللذة الفكرية اللذين ألفتهما فيما اطلع عليه من الأدب، ومع إيمانى باليوم الذى يرتفع فيه أدبنا إلى المستوى العالمي، كنت أشعر بأن هذا اليوم سيجئ بحكم طبيعة الأشياء متأخرا، فربما يراه بعض جيلى وربما أبناء جيل قادم. عندما قرأت أهل الكهف الذى تكرمت على بنسخة منه علمت علم اليقين أن اليوم الذى كنت أترقبه قد طلع وملأت شمسه الآفاق.

تم انتخاب مشرفة أول عميد مصرى لكلية العلوم فأصبح للكلية شهرة علمية واسعة بين كليات أوروبا وأمريكا، وقام بدعوة جمعية علماء الطاقة الذرية بانجلترا لإقامة معرض للطاقة الذرية فى كلية العلوم سنة 1949 وبالفعل أقام هذا المعرض ليعرف الناس قيمة الطاقة الذرية.

أما الشيء المدهش فقد عمل على إنشاء كرسى علم الموسيقى وانتدب له أستاذا زائرا عهد إليه بإلقاء محاضرات الموسيقى فى كلية العلوم.

وكان يقول: خير للكلية أن تخرج عالما واحدا كاملا من أن تخرج كثيرين أنصاف علماء.

لدينا الكثير من الأدباء وشراح القوانين، أما الكفايات العلمية فلا نجد إلا النذر اليسير منها، والبحث العلمى موكول إلى المصادفات.

كان يدعو إلى العلم والتفكير العلمى فى كل مناحى الحياة، وفى كتابه العلم والحياة يقول مثلا: إن مشكلة التموين يجب ألا تترك للصدف،بل يجب أن تحصى المؤن إحصاء دقيقا، وأن تحسب قيمتها الغذائية ومحتوياتها من الفيتامينات، وتوزع على الكبار والصغار على أساس علمى تراعى فيه صحة الأجسام وقدرتها على العمل.

دعته جامعة برنستون الأمريكية للاشتراك فى بحوث القنبلة الذرية، وكان أحد القلائل الذين عرفوا سر تفتت الذرة، واشترك مع إينشتاين وابينهايمر فى الدعوة لاستعمال الذرة فى السلم.

ودعا مبكرا لأن تقوم مصر بعمل القنبلة الذرية لتدافع بها عن وطنها، مطالبا باستخراج اليورانيوم الموجود فى صحراء مصر الشرقية.

وكان يقول: الشمس التى تسقط على مصر تكفى لإدارة جميع المحركات الآلية فى العالم.

الصحراء بعد النيل هى المصدر الثانى لثروتنا الوطنية لما فيها من كنوز مخبأة.

وكان من أوائل من قالوا إن الهيدروجين تصنع منه القنبلة أيضا، وبعد وفاته صنعت القنبلة الهيدروجينية.

عندما قام الملك فاروق والملك عبدالعزيز آل سعود بزيارة إلى جامعة القاهرة ألقى مشرفة كلمة بليغة فى حضورهما لفتت إليه أنظار الملك فاروق فمنحه رتبة الباشوية.

لكن مشرفة العازف عن الألقاب كان يتمنى من الملكين أن يتنبها إلى دعوته للبحث العلمى لتتقدم الأمة، فإنشاء المعامل والكليات العلمية أهم من الباشوية!

لذلك عندما ذهب إليه دكتور أحمد رياض وزير البحث العلمى ليهنئه بالباشوية فى مكتبه قال له مشرفة: هل الباشوية أعلى رتبة من درجة الدكتوراه.

وكان مشرفة دائم الانتقاد لتصرفات فاروق مثل لعب القمار، ويقول: لا يمكن أن تحرر هذه البلاد من الفساد إلا بزعيم واع يطهر البلاد من فسادها.

ووصلت هذه الكلمات بالطبع إلى أسماع الملك فاروق، فقام بعزل مشرفة من وكالة الجامعة بعد انتخابه وأصدرت الحكومة قرارا بتعيين مصطفى عامر ليكون أول وكيل للجامعة بالتعيين.

وهنأ مشرفة الوكيل الجديد بكبرياء، لكنه قال هذا القانون سبق عرضه على مجلس الجامعة ورفض وأحب أن أسجل ذلك.

حزن مشرفة لعزله من وكالة الجامعة، وقالت زوجته: قبل وفاته بأسبوع شعر بدوخة وسقط فى الحمام، وقال الأطباء: إنه مرض فى الكبد ولا خطر منه ونصحوه بالراحة.

وفى ليلة افتتاح البرلمان وكانت ليلة أحد تألفت وزارة النحاس باشا سنة 1950م وكان من بين أعضائها الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف اتصل مشرفة بعميد الأدب العربي، وقال له: خلاص يا طه عملت وزيرا وستترك العلم!

ثم هنأه بالوزارة: أنا كنت ناوى بكره احضر إلى البرلمان، لكنى متوعك قليلا وزوجتى تمنع خروجي!

وفى هذه الليلة ظل يتسامر ويحكى مع إخوته طوال الليل بعد أن قرأ صحف المساء، واستيقظ صباحا، وحاول أن يرتدى ملابسه ليذهب إلى البرلمان لكنه شعر بدوار مرة أخرى وهمد بعدها جسده ومات بينما إشعاعه العلمى والفكرى لا يموت.

ويفجع طه حسين بخبر الوفاة، ويذكر حديثهما ليلة موته قائلا: إنى لأذكر ذلك الحديث، ذات مساء دعوتنى فأسرعت إلى التليفون وكان صوتك بعيدا، وتحدثت إلى وكان صوتك ضعيفا، وكان أشبه بصوت المتحدث حيث يتحرك القطار، يتحدث من النافذة، فيسمع إليه الواقفون وإن حديثه ليتناقص شيئا فشيئا، كنت ترسل إلى تحيتك من بعيد، ثم أصبح فأسمع نعيك، يأتى من بعيد فيصعقني.

كانت صدمة موته كبيرة، اهتزت لها الأوساط العلمية فى العالم وحزن عليه كل أصحاب العقول والقلوب الكبيرة، لكن إشعاعه العلمى واسطورة حياته ظلا حيين لايموتان.

فبعد قيام ثورة يوليو أقام الرئيس جمال عبدالناصر حفل تأبين لعلى مشرفة وتلميذته سميرة موسي، وقال عبدالناصر: إن الحرب لم تعد حرب جيوش، ولكن حرب علم وعلماء، وإننا إذا قلنا إننا نؤمن بالحرية، فإننا نقول أيضا إننا نؤمن بالعلم واسطورته على مصطفى مشرفة.


لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز

رابط دائم: