رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الدخيل فى الجسد

اعتاد أستاذى فى جامعة ستراسبورج الفيلسوف الفرنسى الكبير جان لوك نانسى الذى فقدناه منذ أيام أن يبدأ درسه للصف الأول فى قسم الفلسفة بأن يقول للطلاب إن الفلسفة لا تعنى أن يرفع الإنسان رأسه لأعلى ويغمض عينيه ليفكر فى مصير العالم ورسالة الإنسان ومعنى الوجود وغيرها من الأسئلة الكبرى بل بالعكس عليه أن يفتح عينيه وينتبه لأن الفيلسوف بمثابة موظف فى جمرك على الكلمات يحدد اللفظ المسموح باستخدامه واللفظ غير الملائم. هذه النظرة هى التى بلورت أسلوب نانسى المتفرد الذى يتسم فى آن بالدقة والعمق والشاعرية. وقد تجلى ذلك فى كتابه: الدخيل. وكان نانسى قد تعرض لعملية زرع قلب وعاش بعدها ثلاثين سنة كاملة. وفى هذا الكتاب يسرد فى نص بديع بين الأدب والفلسفة تجربته مع هذا الدخيل الذى سمح بإطالة عمره. ويوضح ارتباكه أمام تعبير: قلبي. فما هو خاص به أصبح غير صالح للاستخدام  والغريب هو الذى يسمح له بالاستمرار. هذا الغريب يحتاج إلى مكان وإلى زمان ليقيم لكنه يبقى بلا حقوق.. وبلا ألفة بل هو مصدر إزعاج واضطراب فى قلب الحميمية. هذا الدخيل يحدث انفصالاً بين الأنا وجسدها لكنه يخلق اقتراباً من نوع جديد لأنه واهب للحياة  ولن يستمر فى مهمته دون تعطيل المناعة وإحداث الشقوق فى قلب الهوية. 

جان لوك نانسى فيلسوف غزير الإنتاج وربما يرجع ذلك لنفوره من الحضور الإعلامى ومطالبته بأن يتوافر الوقت للصمت. تناول مجالات عدة كتاريخ الفلسفة والنقد الأدبى والفن والسياسة. وألف جاك دريدا كتابا عن نانسى عنوانه : اللمس، جان لوك نانسي. ليبين أن اللمس هو الخيط الناظم لهذا التنوع. ويرى نانسى أن اللمس يمثل خبرة بالواقع،وهو يختزل المسافة لكنه لا يلغيها. وهو الذى يجعلنا نعى بالغيرية الحقة. فالغيرية لا تكمن فى الانفصال ولا فى الذوبان.

الجسد من الموضوعات التى أولاها نانسى اهتماماً كبيراً، ولم يبدأ اهتمامه بالجسد منذ عملية القلب المزروع وإنما بدأ قبل ذلك بعقود بسبب التغير الذى طرأ على مفهوم التاريخ. فالأشخاص الذين يتصورون أن للتاريخ اتجاها وغاية ويكافحون من أجل تحقيق العالم السعيد هم فى العادة لا يهتمون بأجسادهم، فالجسد ضحية الهدف. ولكن حينما نرى أن مسألة تحقيق العالم السعيد سوف تأخذ وقتا أطول مما نتصور هنا نبدأ فى الالتفات إلى أجسادنا. الجسد يجعلنا نعيش فى الحاضر وهو الوجود بالمعنى الحقيقى، فنحن نتذكر الماضى ونتطلع إلى المستقبل ولكن التذكر والتطلع جزء من الحاضر. فالحاضر يمدنا بأفراح بسيطة مثل لقاء وابتسامة أو منغصات عابرة مثل الغضب والعصبية، ولكن عادتنا الفكرية السيئة تجعلنا نستغرق وجودنا فى التطلع إلى ما لم يتحقق أو فى الندم على مافات. 

كان اهتمام نانسى بالسياسة أصيلا ومبتكرا فى آن ويخرج عن التناول المعتاد فى الفلسفة السياسية، فهو يهتم أساساً بالجماعة أو الوجود المشترك، هذا الوجود مع الآخرين الذى يعد مصدرا لشعور الإنسان بذاته وعواطفه وأفكاره. ويعارض التنميط الذى تفرضه الشمولية والنزعة الفردية التى يولدها الاقتصاد الحر. ويطالب بتحقيق صيغة للوجود المشترك تسمح بما يسميه التفرد المتعدد، ويرى أن السيطرة الحالية للرأسمالية تؤدى إلى عكس ذلك لأنها تقوم على مبدأ أن كل الكائنات قابلة للتبادل وهذا التبادل يقاس بالمال. ويرى نانسى أن ماركس كان على حق عندما أطلق على سطوة النقود فى ظل الرأسمالية مصطلح المكافئ العام الذى تتحدد من خلاله قيمة كل كائن. فالرأسمالية تفرض التكافؤ لكنها تطيح بالمساواة. وهذا التكافؤ الذى يعصف بالقيمة الخاصة للكائنات هو الباب المفتوح للإطاحة بالكرامة والسير فى طريق العدمية. وانطلاقا من هذا التصور لا ينظر إلى الديمقراطية بوصفها نظام حكم أو صيغة فى إدارة المجتمع لكنها ومنذ البداية كانت هى التى تسمح لأفراد الشعب بالتحقق فى الحب والفن والعمل. وفى كتابه حقيقة الديمقراطية يرى أن جاذبية الاشتراكية والشيوعية فى فترة معينة جاءت بسبب إخفاق الديمقراطية فى تحقيق وعودها واختزالها إلى مجرد تعداد أصوات. الديمقراطية عنده هى مفهوم وجودى ميتافيزيقى وليس سياسيا. وظيفة السياسة هى فقط تهيئة الشروط التى تتحقق فيها الديمقراطية. ولم تكن ثورة الشباب فى 68 التي لم تطالب بنظام جديد إلا تعبيراً عن هذا الفهم الواسع للديمقراطية. 


لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث

رابط دائم: