أحدث التحالف الأمنى الأمريكى - البريطانى - الاسترالى، المسمى «أوكوس» الذى أعلن عنه الخميس 16 سبتمبر، ارتدادات وتداعيات سلبية على مستويات عديدة خاصة على العلاقات الأمريكية - الأوروبية وعلى التنافس الأمريكى - الصينى. فبموجب هذه الاتفاقية الأمنية بين الدول الثلاث تقوم أمريكا بتزويد استراليا بأسطول من الغواصات، يصل عددها لـ12 غواصة تعمل بالطاقة النووية، لتحل محل العقد الذى أبرمته استراليا مع فرنسا فى 2016 وتصل قيمته لـ65 مليار دولار تقوم بموجبه شركة نافال بتزويد استراليا بتلك الغواصات، وهو ما أطلق عليه وقتها صفقة القرن بالنسبة لفرنسا لضخامة المبلغ، وقد أحدث ذلك غضبا فرنسيا وأوروبيا وأزمة مع الولايات المتحدة، حيث اعتبرت باريس، على لسان وزير الخارجية جان ايفان لودريان، أنه طعنة من الظهر وان هذا إعادة لسياسات ترامب وخيانة للحلفاء، وتصاعدت القضية باستدعاء باريس سفيريها فى أمريكا واستراليا. ورغم تأكيد الرئيس بايدن تعزيز التعاون مع باريس فإن تلك الخطوة أحدثت شرخا كبيرا فى العلاقات الأمريكية - الأوروبية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص، حيث خسرت فرنسا صفقة مربحة كان يمكن أن تساهم فى إنعاش صناعاتها العسكرية ومن ثم إنعاش الاقتصاد الفرنسى الذى تضرر بسبب جائحة كورونا، كما أن هذا التحالف الثلاثى الجديد يمثل شرخا كبيرا فى التحالف الغربى الأمريكى - الأوروبى فى مواجهة التهديدات والتحديات المشتركة خاصة فى المحيطين الهادى والهندى، وهو ما يدفع أوروبا إلى العمل على صياغة إستراتيجية مشتركة خاصة بها إزاء تلك المنطقة،خاصة فى منطقة بحر الصين الجنوبى التى تشهد مرور 40% من حجم التجارة العالمية خاصة بين أوروبا وشرق آسيا وهناك استثمارات أوروبية ضخمة تصل لتريليونات الدولارات فى تلك المنطقة. كما أن مثل هذا التحالف الأمنى يدفع أوروبا إلى التحرك بجدية صوب التخلى عن العباءة الأمنية الأمريكية وتشكيل جيش أوروبى موحد أو على الأقل قوة عسكرية مشتركة تدعم السياسات الدفاعية للاتحاد، وهو ما أثاره القرار الأمريكى بالانسحاب الانفرادى من أفغانستان دون التنسيق مع الحلفاء. إضافة إلى أن هذا التحالف الانجلو ساكسونى بين أمريكا وبريطانيا إضافة إلى استراليا يمثل محورا جديدا على حساب التحالف الأمريكى الأوروبى خاصة بعد الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، وتوجه بريطانيا لتعزيز التعاون التجارى والعسكرى مع الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة رغم أنها استفادت اقتصاديا من ذلك التحالف وإبرام صفقة الغواصات مع استراليا بما يساعد فى انعاش صناعاتها العسكرية ودعم اقتصادها المتأثر بكورونا وتوفير فرص عمل، فإن هناك تداعيات إستراتيجية سلبية لهذا التحالف على علاقاتها بشركائها، فهذه الخطوة تعد تحركا معاكسا لما قامت به إدارة بايدن خلال الأشهر الماضية والتى تمحورت حول إصلاح الشروخات التى أحدثها ترامب فى العلاقة مع الحلفاء خاصة الجانب الأوروبى، عبر التطمينات التى قدمها الرئيس بايدن فى قمته مع الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو فى شهر يونيو الماضى، حيث تستهدف واشنطن إعادة تحقيق الاصطفاف الاوروبى مع الولايات المتحدة لمواجهة الخصوم الاستراتيجيين، روسيا والصين، وهى نفس الإستراتيجية فى شرق آسيا، حيث قوت علاقاتها باليابان وكوريا الجنوبية لمواجهة الصين، لكن التحالف الثلاثى قد يدفع إلى التباعد الأوروبى عن أمريكا خاصة فيما يتعلق بمواجهة الصين، حيث لا تعتبر أوروبا أن الصين عدو، على عكس أمريكا، ولذلك فإن أوروبا ستغلب مصالحها الاقتصادية وتتجه إلى التقارب مع الصين وروسيا، فى ظل تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية بينها، وعدم التجاوب مع السياسات الأمريكية،خاصة بعدما أظهرت أمريكا برجماتية ونفعية فى إدارة علاقاتها مع الحلفاء، فالاقتصاد الآن والمصالح هما اللذان يقودان السياسة ويرسمان تحالفات الدول وليس الأيديولوجيا أو التحالفات السياسية التقليدية. كما أن هو عدم إشراك اليابان وكوريا الجنوبية فى هذا التحالف يضعف أيضا السياسة الأمريكية فى مواجهة واحتواء الصين، ويطرح علامات استفهام حول توجهات إدارة بايدن فيما يتعلق بعلاقاتها مع الحلفاء، خاصة أن الانسحاب الأمريكى السلبى من أفغانستان أعطى رسالة للحلفاء بأن الولايات المتحدة لم تعد حليفا موثوقا به.
على الجانب الآخر فإن هذا التحالف الأمنى الأمريكى البريطانى الاسترالى الذى يستهدف الصين يزيد من عسكرة منطقة المحيطين الهادى والهندى وبحر الصين الجنوبى ويزيد من منسوب السخونة والتوتر فيها،خاصة إذا ما انضمت إليه دول اخرى فى المستقبل، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وهو ما سيدفع الصين إلى اتخاذ رد فعل أكثر تصعيدا مثل تكثيف انتشارها العسكرى والأمنى فى المنطقة، وزيادة قدراتها العسكرية وهو ما يشعل سباق التسلح والحرب الباردة الجديدة مع الولايات المتحدة وحلفائها. إضافة إلى أنه يزيد من التقارب الصينى - الروسى والعمل المشترك بينهما لمواجهة السياسة الأمريكية، وهو ما انعكس فى التعاون الامنى عبر منظمة شنغهاى.
لاشك أن هذا التحالف الثلاثى يعكس تضارب السياسة الخارجية لإدارة بايدن، فى علاقاتها مع الحلفاء والشركاء، وخاصة مع الاتحاد الأوروبى، حيث تتحرك خطوة إلى الأمام فى تعزيز تلك العلاقات وفى ذات الوقت تتراجع خطوات إلى الخلف، وهذا من شأنه إعادة رسم وتبديل خريطة التحالفات والتفاعلات، وفقا لمعيار المصلحة أولا وهو ما يؤثر فى طبيعة النظام الدولى وتحوله إلى نظام متعدد الأقطاب.
لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد رابط دائم: